غزو الكويت.. لم تُطوَ كل صفحاته بعد!

على امتداد أكثر من 3 عقود، وحتى بعد سقوط نظام صدام في العام 2003، بقي العراق مكبلاً بعشرات المليارات من الديون المترتبة عليه لدولة الكويت وغيرها.

  • هناك حقائق تاريخية مهمة للغاية لا ينبغي أن تغيب من الذاكرة
    هناك حقائق تاريخية مهمة للغاية لا ينبغي أن تغيب من الذاكرة

في مثل هذه الأيام، قبل 31 عاماً، كانت حرب الخليج الثانية أو ما عُرف بحرب تحرير الكويت، التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية بمشاركة عدد كبير من الدول الأجنبية والعربية، قد حطمت الجزء الأكبر من القدرات العسكرية العراقية، ودمرت الكثير من البنى التحتية والمنشآت الحيوية، وشلّت الحياة في البلاد في غضون بضعة أسابيع فقط. 

وقبل ذلك، كانت الحملات السياسية والدبلوماسية والإجراءات العقابية الاقتصادية قد بدأت بعد ساعات قليلة من غزو نظام صدام لدولة الكويت في فجر الثاني من آب/أغسطس 1990، وضمها إلى العراق، واعتبارها المحافظة التاسعة عشرة فيه.

وتمثَل جانب من الحملات السياسية والدبلوماسية والإجراءات العقابية الاقتصادية ضد نظام صدام - أو بتعبير أدق ضد الشعب العراقي - بحزمة قرارات صدرت عن مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة، بدأت بالقرار 660 الذي صدر بعد ساعات من اجتياح القوات العراقية لدولة الكويت وهروب أعضاء الأسرة الحاكمة إلى المملكة العربية السعودية ودول أخرى. 

وقد جاء القرار مقتضباً جداً، ومؤلفاً من 3 فقرات، وتضمن إدانة للغزو ودعوة لسحب الوحدات العسكرية العراقية إلى مواقعها التي كانت فيها في الأول من آب/أغسطس، والشروع في مفاوضات بناءة لمعالجة الملفات والقضايا الخلافية بين العراق والكويت وحلها.

وبعد 4 أيام، وتحديداً في 6 آب/أغسطس، صدر القرار الثاني عن مجلس الأمن الذي يحمل الرقم 661، والذي تم من خلاله فرض جملة من العقوبات والإجراءات على العراق، استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجيز استخدام القوة المسلحة ضد أي طرف يهدد السلم والأمن الدوليين.

وفي قراره 687، الصادر بعد وضع الحرب أوزارها في 3 نيسان/أبريل 1991، فرض مجلس الأمن على الحكومة العراقية دفع تعويضات لكل الدول والمؤسسات والمنظمات والأشخاص الذين تضرروا جراء غزو الكويت وتبعاته وتداعياته اللاحقة، فضلاً عن تشكيله لجنة خاصة بإزالة جميع أسلحة الدمار الشامل العراقية (أونسكوم)، وفقاً لقراره 692، الصادر في 20 أيار/مايو 1991.

وعلى امتداد أكثر من 3 عقود، وحتى بعد سقوط نظام صدام في العام 2003، بقي العراق مكبلاً بعشرات المليارات من الديون المترتبة عليه لدولة الكويت وغيرها، لتنطوي هذه الصفحة المؤلمة في 22 شباط/فبراير الجاري، بقرار أممي من مجلس الأمن بإجماع أعضائه الـ15، يقضي بإنهاء تفويض لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتعويضات عن الأضرار الناجمة عن الغزو العراقي للكويت في العام 1990، "بعدما سدد العراق كامل المبالغ المترتبة عليه للكويت وكل الأطراف المستحقة للتعويضات، وقدرها 52.4 مليار دولار".

وأكد مجلس الأمن في قراره الجديد "أن الحكومة العراقية لم تعد مطالبة بأن تدفع للصندوق الذي تديره اللجنة نسبة من عائدات مبيعات صادراتها من النفط والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي... وأن عملية تقديم مطالبات للجنة اكتملت الآن بصورة نهائية، ولن يتم تقديم أي مطالبات أخرى إليها". وبذلك، يخرج العراق من إجراءات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والتي خضع لها منذ العام 1990.

وبحسب التقارير الرسمية، بتت لجنة التعويضات الأممية طيلة فترة عملها الممتدة إلى 3 عقود بنحو 2.7 مليون طلب تعويض، بقيمة 352 مليار دولار، تم دفع 52.4 مليار دولار منها، واختتمت عملها في 3 كانون الثاني/يناير الماضي، بتسديد آخر دفعة، بما مقداره 630 مليون دولار، وهو ما اعتبر إنجازاً كبيراً، بحسب قول السفير مايكل غافي، رئيس مجلس إدارة لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتعويضات، حين وصف انتهاء عمل اللجنة بأنه "إنجاز تاريخي للأمم المتحدة ولتعددية الأطراف الفعالة".

لا شك في أن تلك المبالغ الطائلة التي اقتُطعت من ثروات العراق، في ظل تعرض الشعب العراقي لمختلف أشكال المعاناة والمصاعب الحياتية والاقتصادية لفترة طويلة من الزمن، تعد واحدة من أبرز وأوضح النتائج الكارثية لحرب الخليج الثانية، التي قد لا يختلف اثنان على أن الولايات المتحدة الأميركية، ومعها حلفاؤها وأصدقاؤها الدوليون والإقليميون، يتحملون المسؤولية الأخلاقية عن كل ما خلفته من خراب ودمار ودماء وأرواح، وما أفرزته من آثار وتبعات مادية ومعنوية ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا بصور وأشكال ومظاهر مختلفة، لأنهم مكنوا نظام صدام، وهيأوا له شتى أساليب العدوان ووسائله وأدواته، بدءاً من الحرب ضد إيران في العام 1980، وليس انتهاء بغزو الكويت، وهم الذين أعادوا له الحياة في ربيع العام 1991، بعدما كاد يسقط وينهار بفعل الانتفاضة الشعبية التي اجتاحت 14 محافظة عراقية، انطلاقاً من حسابات ومصالح خاصة، وكانوا يعرفون ويراقبون ويتابعون سياسة التجويع والإذلال التي كان يمارسها ذلك النظام ضد العراقيين خلال أعوام الحصار القاسية.

هذه حقائق تاريخية مهمة للغاية لا ينبغي أن تغيب من الذاكرة، ويجب أن توثق بكل صدق وأمانة وموضوعية في سجلات التاريخ. فضلاً عن ذلك، حري بالأطراف التي تسببت بشكل أو بآخر بكل تلك المآسي والكوارث والويلات أن تساهم في التخفيف من آثارها السلبية - إن لم يكن في وضع حد لها - على كل الصعد والمستويات.

قد يشكل إغلاق ملف التعويضات وإخراج العراق من قيود الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية والتزاماته بداية طيبة ونقطة تحول وانعطافة حقيقية في وضع البلد ومكانته في الساحة العالمية، عبر فتح آفاق جديدة من العلاقات الإيجابية مع الفضاء الدولي والمحيط الإقليمي، مثلما أكد الرئيس العراقي برهم صالح بالقول: "اليوم، ينطلق العراق نحو سياسة خارجية مبنية على إقامة أفضل العلاقات مع أشقائنا وجيراننا والمجتمع الدولي، ودعم أمن المنطقة وسلامها، باعتباره مصلحة مشتركة للجميع"، كما وصف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي القرار الدولي بأنه "بداية جديدة لاستعادة العراق دوره وحضوره، من خلال رؤية الدولة، وليس عبث اللادولة"، إلى جانب الدفع باتجاه تعزيز مسيرة الإصلاحات وتسريع مشاريع التنمية، وهو ما عبرت عنه وتطلعت إليه مختلف الشخصيات والزعامات والفاعليات السياسية والنخبوية المجتمعية في سياق ردود الأفعال المرحبة، في وقت تتمحور الرؤية الاقتصادية للقرار حول حقيقة "أن خروج العراق من الفصل السابع وإنهاء ملف لجنة التعويضات ستكون له آثار إيجابية من الناحيتين المالية والاقتصادية، إذ إن انتهاء أعمال اللجنة الأممية يعني توقف المطالبات من العراق، علماً أنه قبل ذلك، كان العديد من المطالبين بالتعويضات، وهم كثيرون، وفي الغالب يدعون أنهم متضررون، يتهيأون في كل مناسبة وأخرى للمطالبة بتعويضات عبر محاكم في بلدانهم الأجنبية".

وثمة رؤية اقتصادية من زاوية أخرى تقوم على ضرورة الاستفادة من المبالغ التي كانت تدفع سابقاً كتعويضات، وبنسبة 5% من مجموع عوائد البلاد النفطية، لمشاريع وخطط التنمية المستقبلية، أو كما دعا رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي والنائب الأول الأسبق لرئيس البرلمان الشيخ همام حمودي لإنشاء "صندوق الأجيال"، وتوظيف تلك العوائد "في مشاريع استثمارية وتنموية وفق خطة حكومية مدروسة، ولا سيما في قطاعات التربية والصحة ورعاية الطفولة والأمومة والعوائل الفقيرة".

ويذهب خبراء في الشؤون المالية والمصرفية إلى أن إغلاق ملف التعويضات يعني أن حوالى ملياري دولار سنوياً كانت تدفع كتعويضات ستضاف إلى موازنة الدولة، وأن من المهم جداً "تخصيص هذه الأموال لصناديق سيادية من أجل تعويض الأجيال القادمة عما تستنزفه الأجيال الحالية من إيرادات النفط والثروة النابضة". 

ويضيفون: "هذه الخطوة ستؤدي أيضاً إلى عودة مكانة الاقتصاد العراقي إلى سابق عهدها، إذ ستتمكن المصارف العراقية من نقل الأموال من داخل البلاد وخارجها، وستنهي الحاجة إلى بنوك المراسلة التي كانت تمثل تحدياً للبلاد، وسترفع درجات الائتمان المالي للعراق، وبالتالي تعزز فرص الاستثمار وآفاقه".

لا شك في أن خروج العراق من قبضة الفصل السابع ينطوي على أبعاد ودلالات ومؤشرات سياسية واقتصادية واعتبارية كبيرة وعميقة، فهو، إلى جانب توفير الأموال التي يمكن استخدامها وتوظيفها في مختلف مجالات التنمية وقطاعاتها بعناوينها الواسعة، من شأنه أن يساعد في السير بخطى حثيثة وسريعة نحو استعادة السيادة الوطنية الكاملة، لا بالمفهوم السياسي والعسكري فقط، إنما في نطاق المال والاقتصاد والثقافة أيضاً، بيد أن كل ذلك يتطلب تهيئة الأرضيات الملائمة والظروف المناسبة، من قبيل الاستقرار السياسي، والقضاء على الفساد المالي والإداري - أو التقليل منه إلى أقصى قدر ممكن – وتقوية منظومات الدولة، ووضع حد لمظاهر الارتهان للإرادات والأجندات الخارجية، إذ إن توفر المزيد من الأموال، سواء تلك التي كانت تدفع للكويت وغيرها أو من خلال ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، لا يكفي لوحده لمعالجة الكمّ الهائل من المشاكل والأزمات التي تراكمت على مدى عقود من الزمن، من دون صياغة خارطة طريق واضحة المسارات والرؤى والأفكار والتصورات والأهداف، وتخطي عقود من الفوضى والتخبط والاجتهادات الخاطئة والآفاق الضيقة، وعدم تكرار صور الأعوام الثلاثين الماضية ومشاهدها.