عندما يُصاب المهزوم بعقدة المنتصر
هذا ما أصاب النخبة الحاكمة من آل سعود في الجزيرة العربية، وظهر ذلك واضحاً في الحملة الإعلامية ضد جورج قرداحي.
تُصاب الجماعات البشرية التي حققت انتصارات كُبرى في ميادين الصراع والقتال، وأنجزت اكتشافات عُظمى في مجالات العلم والمدنية، بعقدة المنتصر، فيسكنها الإحساس بالتفوّق والاستعلاء، ويستوطنها الشعور بالعُجب والكِبر، ويحلُّ فيها مرض الغطرسة والغرور، فتُمارس أبواقها السياسية والإعلامية المكارثية ضدّ مُخالفيها وخصومها، لتدميرهم معنوياً بالتشويه والتسفيه، وتحطيمهم نفسياً بالتجريم والتأثيم.
إذا حدث ذلك، فهو أمرٌ سيّئ وقبيح، ولكنَّهُ مُتوقّعٌ كظاهرة اجتماعية، ومتّسقٌ مع السلوك البشري، ولكنَّ الأمرَ الأكثر سوءاً وقُبحاً، وغير المتوقع وغير المتّسق، هو أنَّ تُصاب الجماعات البشرية المهزومة والمُهانة والعاجزة بعقدة المُنتصر، فتلجأ إلى تعويض الشعور بالنقص بتشرّب صفات المنتصر الشرير، فتبدّل الهزيمة بالكِبر، والمهانة بالاستعلاء، والعجز بالغرور، ويصبُّ كلَ هذا الشر في ممارسة المكارثية بأبشع صورها، وأسوأ أشكالها.
هذا ما أصاب النخبة الحاكمة من آل سعود في الجزيرة العربية، وظهر ذلك واضحاً في الحملة الإعلامية ضد الإعلامي العربي والوزير اللبناني جورج قرداحي، بعد نشر تصريحاته المنتقدة لعدوان النظام السعودي على اليمن بعبارات موضوعية مُخالفة لرواية النظام الذي اعتبرها مُهينة له، لكونها جاءت من لبنان، أمّا إذا جاءت الإهانة من دول كُبرى كأميركا فلا بأس، فالنظام السعودي الحاكم لطالما تعرّض لإهانات مصدرها الغرب لم يجرؤ على الرد عليها، وإهانات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لهم ليست منّا ببعيدة، فهو لم يرَ فيهم سوى أكياس من النقود، فهم في نظره "لا يملكون سوى المال"، وأعلن أنَّه سيأخذه منهم مقابل حماية عروشهم، فلم نسمع لهم حساً ولا رِكزاً في الرد على هذه الإهانات، بل فعلوا ما أمرهم به ترامب بتقديم الجزية لأميركا أضعافاً مُضاعفة عن يدٍ وهم صاغرون.
أمّا الهزيمة فقد كانت عنوان آل سعود الأبرز على مدارِ سنواتٍ طويلة من الخيبات التي لاحقتهم في كل حروبهم، بالوكالة أو بالأصالة؛ فحروبهم بالوكالة، لعبوا فيها دور البطولة الشريرة، كمصدر لفكر (السلفية الجهادية) المولود من رحم الوهابية السعودية، وكمصدرٍ للتمويل والتسليح القادم من فائض أموال البترودولار السعودية. وأما حروبهم المباشرة بالأصالة، كالعدوان على اليمن، فما زالت الهزيمة تلاحقهم فيها مع صرخات الضحايا المستضعفين من الرجال والولدان والنساء الذين يؤمنون بوطنهم اليمن، حُرّاً عزيزاً سيداً، ومقاوماً عربياً مُسلماً. وهي الهزيمة التي رسّخت فيهم عُقدة المنتصر المهزوم، وطفت على السطح بعد نشر تصريحات السيد جورج قرداحي حول حرب اليمن.
جورج قرداحي لم يقل عن حرب اليمن أكثر ممّا قاله كثيرٌ من السياسيين في العالم وأحرار الأمة، ومنهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، عندما وصف الحرب بأنها عبثية وضد مصلحة الشعب اليمني، وطالب بوقفها، وهذا التصريح قبل أربع سنوات؛ فاليوم هي أكثر عبثية، بل هي حرب إجرامية وإرهابية، بعد آلاف الغارات السعودية التي زرعت الموت والدمار في أرض اليمن، وبعد سنوات الحصار التي بذرت البؤس والجوع في شعب اليمن.
وبدلاً من الاستفادة من توصيف قرداحي الموضوعي للحرب بإعادة تقييمها وصولاً إلى إيقافها، أمر آل سعود أبواقهم السياسية والإعلامية بشنّ غزوة جورج قرداحي للبحث عن نصر وهمي في لبنان، بواسطة المكارثية، كأسلوب للقهر النفسي والإرهاب الفكري، مدفوعين بعُقدة المنتصر المهزوم كآلية للتعويض عن الإهانة والهزيمة والعجز، بعد فشل ضغوطهم على لبنان وحروبهم ضد المقاومة.
عُقدة المُنتصر التي أصابت النُخبة السعودية الحاكمة المُهانة والمهزومة والعاجزة، ألبستهم ثوب النصر المتوهّم والإنجاز المُتخيّل، فأعمت بصيرتهم عن رؤية شمس الحقيقة، وأصمّت آذانهم عن سماع صوت الحق، وأغلقت عقولهم وقلوبهم عن الاعتراف بالآخر المُختلِف، فذهبوا إلى أقصى درجات المكارثية إرهاباً وقمعاً ضد المُخالفين والمختلفين، بوسائل ميكيافيلية غاية في اللاأخلاقية، لإبادة خصومهم قتلاً جسدياً كما حدث سابقاً مع جمال خاشقجي، أو قتلاً معنوياً كما يحدث حاضراً – من دون فائدة – مع جورج قرداحي، متّبعين الاستراتيجية النازية (اكذب اكذب حتى يصدّقك الناس)، بعد تطويرها إلى (اكذب اكذب حتى تصدّق نفسك).
ختاماً، يُمكن القول إنَّ الحملة الإعلامية والسياسية الموجّهة من نظام آل سعود ضدّ السيد جورج قرداحي وكل رجل حر، وضدّ لبنان المقاوم وكل محور المقاومة، ليس لها مُبرّر أو تفسير سوى إصابتهم بعقدة المنتصر التي تُصيب الجماعات المُهانة والمهزومة كآلية تعويضية لا شعورية، وكان الأفضل لنظام آل سعود الحاكم أنْ يستفيد من تصريحات قرداحي فيوقف العدوان على اليمن، ويُسهم في إنجاز الوفاق الوطني اليمني على كلمةٍ سواء تجمع اليمنيين حول مصلحة وطنهم وهويتهم العربية الإسلامية، وكان الأفضل لذلك النظام الحاكم أنْ يرفض الإهانة الأميركية ويحتمي بشعبه العربي الأصيل في الجزيرة العربية، ويحتمي بالتحالف مع الأمة العربية والإسلامية ضد الغزاة الغربيين، حفاظاً على ثرواتهم وكرامتهم وإرادتهم.