عندما ترتج البيوت في جنين من وقع القصف في حيفا
مشاعر عارمة تجتاح مخيمات شمال الضفة، مع صخب فادي وزفة الطائرات المسيرة المصاحبة لعصفه في وادي عارة ومجدو والأغوار من طمون حتى جلبون.
يحصل منذ أيام أن يشاهد أهل جنين وشمال الضفة عمليات القصف الصاروخي اللبناني لحيفا، وقد دخلت منطقة حيفا جنوباً حتى العفولة في مرمى صواريخ حزب الله، والمسافة بين حيفا وجنين نحو 50 كم، ضربتها الصواريخ القادمة من العمق اللبناني ليلاً، فتحول سماء جنين إلى فضاء معركة شاهد أهلها خلالها قذائف القبة الحديدية وهي تحاول اعتراضها، ثم شاهدوا الدخان يتصاعد من قاعدة رامات ديفيد الجوية جنوب شرقي حيفا. ماذا تعني هذه المشاهدة الفلسطينية، ونحن نتحدث عن جنين صاحبة الرأس العنيد في مجابهة الجيش الإسرائيلي منذ عقود متصلة، وخصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة؟
ترتج بيوت جنين، وخصوصاً ريفها الغربي، على وقع كل صاروخ لبناني ينفجر في قواعد حيفا والعفولة العسكرية، وخصوصاً مطاراتها التي عصفت بها صواريخ حزب الله. ولم يعد الأمر يقتصر على ليل جنين الذي لطالما اشتعل عادة بصفارات الإنذار التي تطلقها كتيبتها تحذيراً من احتمال اقتحام عسكري إسرائيلي، فإذا بها منذ أيام ترخي السمع، ليس لصفارات الإنذار في مستوطنات بيسان المجاورة لقرى جنين الشرقية بعد القصف العراقي فحسب، إنما لوقع القصف ليلاً حيث يتبدد السكون، ونهاراً رغم ضجيج الحياة، بما فيها صخب طلاب المدارس التي يتعلم طلابها وجاهياً في جنين هذه الأيام، بينما في الجوار حيث العفولة الإسرائيلية يتعلمون من بعد خوفاً من القصف، في مفارقة عجيبة لتغير الأحوال.
صعد شبان جنين على أسطح المنازل، وقد دخلوا جميعاً في سلك الصحافة، ينتجون مقاطع فيديو لأحدث ما أنتجته ترسانة حزب الله من دراما واقعية في دك فخر الصناعة الإسرائيلية الأميركية، وخصوصاً أنظمة رفائيل الدفاعية في وزارة الحرب الإسرائيلية، التي تتوزع مصانعها في عمق غابات حيفا، وقد وصلها القصف أول مرة مع انبلاج الشمس، لتوقظ النائمين من أهل جنين وقد صاروا على موعد مع زوار الفجر، وهذه المرة مع ضيوف لبنانيين يردون للإسرائيلي بعض جرمه الثقيل في مخيم جنين والشجاعية ومار الياس.
اعتلى أهل جنين كل الهضاب والتلال بشموخ وشحنة أمل، فلم يكن هذه المرة ثمة قناص إسرائيلي في الأفق يجعل الأمهات يندفعن لثني الأبناء عن الارتفاع خشية التعرض لرصاصات القنص الغادرة التي قتلت العشرات من أهل جنين مع كل اجتياح أو اقتحام. اليوم، هناك زائر اسمه فادي يطل من عمق التلاحم الفلسطيني اللبناني، ليسند غزة وجنين وشعب لبنان الوفي في وجه حرب الإبادة الإسرائيلية الزاحفة عبر الإقليم وسط بحر من الدم.
والحال هو ذاته مع عرب الناصرة، عندما زحفوا لأخذ صورة مع شظايا الصواريخ التي سقطت قريباً من الناصرة، وهي ربما شظايا القبة الحديدية، كما هي قرب دير استيا المجاورة لتجمعات استيطانية في شمال الضفة، وقد وصلت إلى أطرافها 5 صواريخ لبنانية أيقظت في قلوب المستوطنين الرعب، ولم يتوقع هؤلاء أن يلاحقهم الخطر عبر السماء المفتوحة دون حواجز المحتلين الأرضية ولا مقلاع داوود الجوي، وقد اعتادوا نشر العربدة وسط الفلاحين الفلسطينيين بحماية جيشهم ومنظومة أمنهم الوحشية.
مشاعر عارمة تجتاح مخيمات شمال الضفة، مع صخب فادي وزفة الطائرات المسيرة المصاحبة لعصفه في وادي عارة ومجدو والأغوار من طمون حتى جلبون. وقد كانت منذ أيام على موعد مع النزوح من نور شمس والفارعة ومخيمي جنين وطولكرم، في وجه اجتياح ما زالت أصداؤه تتردد، واحتمالات تجدده قائمة دفعاً للتهجير، فثمة مستوطنات كانت مخلاة منذ عقدين يراد لها أن تضج بالحياة اليهودية وسط بحر من القرى الفلسطينية، بقرار صدر عن الائتلاف اليميني الحاكم في الكيان العبري منذ ثلاث سنوات، وتنفيذه الواقعي معلق حتى سحق الكتائب الناهضة من تحت الركام لتقاتل مدرعات بوز النمر وجرافات الـD9.
وحدهم الأسرى الفلسطينيون استيقظوا في معتقل مجدو ثلاث مرات بالأمس، تناولوا 3 وجبات فرح في الليل، بعد وجبات النهار الباردة من مذاق الطعام في زمن بن غفير الجائع. 3 صليات صاروخية ضربت مطار مجدو العسكري المخبأ تحت مطار زراعي. هل كان الأسرى يعلمون أن هذه الانفجارات المجاورة قادمة من لبنان عربون تحية لصمودهم وصبرهم، وهم مقطوعون عن كل ملامح الحياة الخارجية منذ السابع من أكتوبر، فلا تواصل ولا زيارة ولا حق بالسؤال، فالوقت كله بين قمع وتنكيل، وشتان بين حالهم هذا اليوم وبين ذكريات عشتها بينهم في حرب عام 2006، هناك في معتقل مجدو، عندما تعرضت للضرب حقداً في جو الحرب، فقلت للحراس المعتدين: أنتم تعتدون على أسير مقيد، ولو كنتم رجالاً اذهبوا لحسن نصر الله وجربوا حظ رجولتكم، فعمهم الصمت الثقيل.
ترى ما الأثر النفسي الذي يغمسه وقع هذا القصف اللبناني في قلوب الشعب الفلسطيني المظلوم والمحروب منذ عقود، وخصوصاً بعد السابع من أكتوبر؟ يتجاوز هذا الأثر الوهج العاطفي الذي يشتعل عند غالبية الشبان الفلسطينيين، وهم محتقنون بمشاعر الانتقام التي تخلفها الجرائم الإسرائيلية، لما هو التكوين النفسي والسكون العصبي والبناء الفكري، والأهم تبديد موجة البروبغندا الدعائية ضد المذهب الشيعي، والتي اشتُغل عليها عبر سنوات حثيثة مضت وما زالت، بل تجددت مع جبهات الإسناد التي تخرج حصراً من الوسط الشيعي دون عوائق مذهبية.
لا يحتاج أهل جنين إلى فضائية إعلامية ولا تنظير في عالم الوعي، لتلمس تطورات المواجهة بين حزب الله والكيان الإسرائيلي، وهم شهود المعركة المباشرون، يحتفظون في ذاكرتهم كل مسميات حيفا المحتلة، وكانت تتربع في عقلهم الجمعي ميادين عمل للرزق عند انعدام سبل العيش المحلي، من يوكنعام وكريات آتا حتى الكريوت وكريات ملاخي، فإذا بها اليوم عبر مدى الرؤية وصدى الانفجارات، تتحول إلى ميادين قصف بعدما طال الأمد على استباحة جباليا والشجاعية وطوباس وكفرذان وميس الجبل.