عنب الخليل ودماء شهدائه
من أين جاء كل هذا السلاح وهذا العنفوان لسكان الضفة الغربية في زمن القهر واللهاث نحو التطبيع والتنسيق الأمني واتفاقيات السلام بمسمياتها المختلفة؟
يسمي أهل الخليل موسم العنب "القيظ" لارتباطه بارتفاع درجات الحرارة في شهر آب، ويمتد هذا الموسم حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، وإذا تأخرت الأمطار قد يمتد حتى شهر كانون الأول (ديسمبر). يمتاز عنب الخليل، إضافة إلى حلاوة الطعم، بغزارة الإنتاج، ويتباهى "الخلايلة" بعنبهم ويقيمون له الاحتفالات والمهرجانات.
عندما سمعت عن العمليات المتتالية التي قام بها المقاومون في الخليل، خطر لي موسم العنب الخليلي، فتلك العمليات لم تشفِ صدورنا فحسب، ولكنها أعلنت أن المقاومة خيار الكل الفلسطيني، وأن ذهاب العدو إلى جنين أو طولكرم أو طوباس لن يمنع "الخلايلة" من الرد وفتح جبهة في جنوب الضفة الغربية لا تقل ضراوة عمّا يقوم به المقاومون في الشمال.
بالنسبة إلى المعلقين والخبراء العسكريين الصهاينة، فإن تحول الضفة الغربية إلى غزّة جديدة ليس سوى مسألة وقت.
المقاومون أصبحوا يمتلكون تقنيات عالية في صناعة العبوات الناسفة، ويمتلكون أسلحة شخصية بكثافة. وخلال وقت قصير، سيطورون تقنية صناعة الصواريخ التي تعتبر كارثة حقيقية بالنسبة إلى الكيان.
أهم ما في الأمر أن المجازر التي ارتكبت في غزّة لم تردع مقاومي الضفة، فارتفعت وتيرة العمليات ضد الصهاينة كماً ونوعاً.
جاءت عملية "المخيمات الصيفية"، كما أطلق العدو على عمليته الواسعة، بهدف صنع انتصار يقدمه نتينياهو إلى الجمهور "الإسرائيلي" من جهة، وإلى الدول الداعمة للكيان من جهة أخرى، لكن عمليات الخليل، وبشكل خاص عملية حاجز ترقوميا، أحبطت تحقيق هذا الهدف، وساهمت في تصاعد التظاهرات في تل أبيب، وفي تقديم الرئيس الأميركي بايدن انتقاداً مباشراً، نادراً من نوعه، لرئيس الوزراء الصهيوني، متهماً إياه بعدم بذل الجهد الكافي لتحرير الأسرى الإسرائيليين.
الضفة الغربية هي مقتل "دولة" العدو، فهي تضم نحو 800 ألف مستوطن. وفي حال تطوير القدرة الصاروخية للمقاومة في الضفة الغربية، فهي لن تحتاج إلا إلى صواريخ بدائية قصيرة المدى لتستهدف المستوطنات الصهيونية. يدرك العدو هذا الخطر، ويرتكب جرائمه وعملياته، ويقتل الفلسطينيين من دون تمييز، إذ بلغ عدد الشهداء في الضفة منذ بداية عملية طوفان الأقصى أكثر من 685 شهيداً. أما المعتقلون فعددهم بالآلاف.
من أين جاء كل هذا السلاح وهذا العنفوان لسكان الضفة الغربية في زمن القهر واللهاث نحو التطبيع والتنسيق الأمني واتفاقيات السلام بمسمياتها المختلفة؟
لقد كانت نتائج عملية طوفان الأقصى وما تلاها من وحدة ساحات المقاومة في التصدي للعدو الشعلة التي أطلقت فتيل المقاومة في الضفة الغربية، لكن هذه المقاومة ليست وليدة الساعة، فهي تتصاعد كماً ونوعاً منذ أكثر من 3 سنوات. وعملية "المخيمات الصيفية"، وإن كانت أكبر عمليات العدو منذ عملية "السور الواقي" عام 2002، إلا أنها ليست الأولى التي تستهدف جنين ونابلس وطولكرم، فقد سبقتها عمليات مماثلة استهدفت عرين الأسود في نابلس، وكتيبة طولكرم، وكتيبة جنين، وكلها حدثت قبل طوفان الأقصى.
تكامل الساحات وتناغمها ليس عملاً عفوياً أو رد فعل، كما يحاول البعض تصويره، بل هو عمل مخطط له بدقة، وتم التدريب عليه في أكثر من معركة محدودة، مثل سيف القدس ووحدة الساحات، ليخرج بهذا التناغم بين الجبهات المختلفة.
لم يكن الاستعداد معنوياً وتخطيطياً فحسب، فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أعلنت الأردن إسقاط عشرات المسيرات التي تحمل أسلحة للمقاومة، وكذلك اعتقال شبكات تهريب للأسلحة، وهو ما أكده وزير خارجية العدو "إسرائيل كاتس" عند حديثه عن الحدود الأردنية الطويلة والمفتوحة التي تشكل خطراً على "إسرائيل".
إذا تخطينا التعريفات العسكرية التقليدية قليلاً، فإننا سندرك أن ما يحدث ليس معركة أو حرباً بين المقاومة والعدو، بل هي ثورة المقاومة على العدو وجميع حلفائه وداعميه. ما يحدث اليوم هو إعادة اعتبار للصراع مع المنظومة الرأسمالية بصفتها العدو الرئيس للشعوب. ما يفعله الجيش اليمني في باب المندب، وما تفعله المقاومة العراقية والسورية باستهداف القواعد الأميركية والأطلسية في المنطقة، يمثل إعادة طرح خيار المقاومة كخيار رئيس ووحيد للتخلص من الهيمنة والنهب الرأسمالي.
إن هذه النظرة جديرة بتوسيع محور المقاومة ليضم كل القوى السياسية التي تجد في الاستعمار بكل أشكاله وكل أدواته وحلفائه خصمها الرئيس.
علينا جميعاً الانخراط في هذه المعركة، ليس بأضعف الإيمان أو كل بحسب مقدرته، علينا أن ندفع أنفسنا وقدراتنا إلى أبعد مدى ممكن، فغزة ما زالت تعاني نقصاً في الإمدادات، فكيف لا نخرج إلى الشوارع مطالبين بإيصال هذه الإمدادات للشعب الذي يفقد حياته بين مطرقة العدوان وسندان الجوع؟ طائرات العدو ما زالت تحط في مطارات بعض دولنا وبضائعه تمر عبر أراضينا. الأمر لا يحتاج إلى بندقيات... فقط الإرادة الحقيقية التي تتخطى عجز الحوقلة إلى فعل ما استطعنا من قوة.
من الخليل جاء موسم العنب مختلطاً بدماء شهداء أحبوا الحياة إلى درجة الموت، ومن جنين وطولكرم علمنا شبان في مقتبل العمر معنى الإرادة والكرامة والفداء. دماء هؤلاء ستبقى تصيح حتى نأخذ ثأرهم، ونعيد لفلسطين أهلها وأسماءها وعنبها.