عملية بئر السبع.. العودة إلى أصل الصراع
ما حدث في معركة "سيف القدس" العام الماضي حاضر بقوة في أجواء استديوهات التحليل السياسي للإعلام الإسرائيلي.
منذ لحظة معرفة هُوية منفذ عملية بئر السبع البطولية الشهيد محمد أبو القيعان، ابن بلدة حورة في النقب المحتل، اشتعلت وسائل الإعلام الصهيونية بالتحريض على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 48.
ومن خلال متابعة المواقف الصهيونية بعد العملية، نجد أنَّ حجم التحريض الصهيوني على هذا الجزء من الشعب الفلسطيني وصل إلى مستويات كبيرة جداً، إلى درجة اعتبارهم الخطر الوجودي الذي يمكن أن يحوّل شوارع المستوطنات الإسرائيلية إلى حمام من الدم اليهودي المسفوح.
لذا، من الواضح أنَّ الكيان المؤقت سيزيد هجمته على أهلنا في الداخل المحتل عام 48، فقد استعادت تقارير التلفزة الإسرائيلية كل التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 48 على مدار 73 عاماً من تصديهم لسياسات الأسرلة، ومقاومتهم محاولات "الدولة" المؤقتة لإفراغ الذات الفلسطينية الوطنية. وبالتأكيد، ما حدث في معركة "سيف القدس" العام الماضي حاضر بقوة في أجواء استديوهات التحليل السياسي للإعلام الإسرائيلي.
أضف إلى ذلك انطلاق حملة واسعة أشبه بالبازار من المزايدات السياسية الصهيونية الداخلية، موجهة بالتأكيد ضد الأحزاب الصهيونية في الحكومة الائتلافية، وخصوصاً الأحزاب اليمينية التي قبلت بأن يكون عباس منصور، زعيم القائمة العربية الموحدة، شريكاً في ائتلافها الحكومي.
ورغم إدانة عباس منصور للعملية، وأيضاً أيمن عودة من القائمة العربية المشتركة، فإنَّ الأمر لم يلقَ أي اهتمام في الحالة السياسية الصهيونية، ولم يلتفت إليه أحد في المجتمع الصهيوني، الأكثر يمينية من أيِّ وقت آخر مر على الكيان المؤقت، بل اعتبروا هذه الإدانات نوعاً من أنواع التمويه، الأمر الذي سيدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت وشركاءه الصهاينة في الائتلاف، أمثال ليبرمان وغانتس ولابيد وغيرهم، إلى تكثيف الهجوم على الشعب الفلسطيني في فلسطين الـ48، من خلال المزيد من تشريع القوانين العنصرية الاحتلالية الطاردة لكلِّ ما هو فلسطيني، ناهيك بسلسلة متواصلة من الإجراءات الأمنية التي ستحول البلدات الفلسطينية في الداخل المحتل إلى أشبه بغيتوهات عزل سكاني.
وبالتأكيد، سينتهز اليمين الصهيوني الاستيطاني الفرصة لتسريع المشاريع الاستيطانية الصهيونية وتوسيعها، وخصوصاً في أراضي النقب المحتل المستهدفة بالأساس صهيونياً.
هذه الحالة ستضع علامة تساؤل حول مستقبل الحكومة الصهيونية، التي لم تكن لتتشكَّل لولا القائمة العربية الموحدة، فهل سيقف عباس منصور مع أهله وشعبه أو سيمضي في غيّه تحت دجل شعار تحصيل الحقوق الحياتية لـ"المواطنين العرب في إسرائيل"؟
هذا الشعار لم يقنع بكل الأحوال الشهيد محمد أبو القيعان، كما لم يقتنع غيره بأن الأولوية تتمثل بتعبيد بعض طرقات البلدات الفلسطينية أو جلب القليل من الموازنات المؤقتة لبعض مجالس البلديات، إذ أن تحسين الحياة المعيشية اليومية ليست القضية المركزية لفلسطيني الداخل المحتل العام 48، الذين باتت لديهم قناعة تامة باستحالة التعايش مع الاحتلال الصهيوني بكلِّ ما يحمله من عداوة وكراهية وحقد على كلّ ما هو فلسطيني؛ هذا الحقد مدعوم بعنصرية دولة أبرتهايد احتلالية وإحلاليه في الوقت ذاته، والتي تعد عنصريتها ونازيتها ضاربة في عمق أيدولوجيتها الصهيونية التلمودية.
وهنا، يمكن القول إنَّ القضيّة المركزية هي بقاء وجود الشعب الفلسطيني ذاته في الأراضي المحتلة العام 48 كشعب يحافظ على هُويته الوطنية ويسعى لنيل أحقيته في العيش بحرية واستقلال على أرضه، وليس كما حاول البعض إقناعه بأنّه "جالية عربية في إسرائيل" أقصى ما يمكن تحقيقه هو النضال في أروقة الكنيست الإسرائيلية من أجل المساواة مع اليهود تحت عنوان "دولة لكل مواطنيها"، في "دولة" تعرّف نفسها بأنّها "دولة اليهود". تلك "الدولة" التي تكشف تشريعاتها، بدءاً من قانون أساس الهجرة، مروراً بقانون القومية، وليس انتهاء بقانون المواطنة، تكشف زيف هذا الطرح وسذاجته، بحيث لا يدرك طبيعة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولا يفهم أبعاده المتشعّبة والممتدة؛ هذا الصّراع الذي يعدّ أساسه صداماً بين مشروعين حضاريين لا يمكنهما التعايش، لأنَّ المشروع الصهيوني يدرك أن وجوده مرتبط بنفي الوجود الفلسطيني كشعب وتاريخ وهوية وجغرافيا. لذا، نجد أنَّ الصراع يصل إلى محاولة نفي الرواية التاريخية الفلسطينية بمقدساتها وإرثها الكنعاني والمسيحي والإسلامي على أرض فلسطين.
ما يحدث الآن يعبّر بالتأكيد عن تغيرات جوهرية في القناعات الفكرية والسياسية للمجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل العام 48. أهمّ تلك التغيرات سيؤثر بداية في تراجع فكرة المشاركة السياسية في انتخابات الكنيست الإسرائيلية ترشحاً وانتخاباً، لكونها باتت بلا جدوى حقيقية أمام التطرف العنصري الإسرائيلي، الأمر الذي سيؤدي إلى البدء بالتفكير في أشكال نضالية أخرى تعتمد على إبراز التضاد الفعلي بين الفلسطيني والإسرائيلي، من خلال فعل شعبي جماهيري ممتدّ قادر على مواجهة "إسرائيل" العنصرية وعدم الاكتفاء بإحراجها فقط.
وهنا، تبرز أهمية المشاركة والمساندة والدعم من كلّ أطياف وفئات الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية لهذه الجبهة النضالية الفلسطينية المتقدمة في الخندق الأول في صراعها مع المشروع الصّهيوني برمّته.