عملية "طوفان الأقصى" تكثّف علامات الاستفهام حول "الأمن القومي الإسرائيلي"
"إسرائيل" ليست دولة كباقي "الدول"، ينطبق عليها من قواعد العلوم السياسية ما ينطبق على الكيانات السياسية الأخرى. فـ"إسرائيل" كيان وظيفي بل قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، وتشكل امتداداً لرأسمالية عالمية صهيونية في منطقتنا.
في 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023 قام المقاومون الفلسطينيون بمهاجمة المستوطنات والقواعد الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، وقدعُدت أكبر ضربة تتعرض لها "إسرائيل" في تاريخها. شكل هذا ضربة قاسية لمفهوم الأمن القومي الصهيوني بما يطرح علامة استفهام على قابلية هذا الكيان على الحياة. إلا أنه على الرغم من ذلك، فإن قواعد العلوم السياسية التي تقوم عليها الكيانات السياسية لا تنطبق على "إسرائيل" لكونها ليست كيانا قائماً بحد ذاته بمقدار ما تشكل امتداداً للهيمنة الأميركية من جهة وللرأسمالية العالمية الصهيونية من جهة أخرى.
مفهوم الأمن القومي وتطوّره
يستند مفهوم الأمن القومي إلى مبدأ حماية مصالح الأمة وسيادتها ورفاهيتها والحفاظ عليها من التهديدات الداخلية والخارجية. وهو يشمل عدداً من الأبعاد بما فيها الدفاع العسكري، والاستقرار الاقتصادي، والاستقرار السياسي، والرفاهية المجتمعية، وحماية البنية التحتية الحيوية. وهو يرتبط أيضاً بالقيمة العليا التي ترفعها الدولة وتعدّها المبدأ المؤسّس لها وللمجتمع الذي تمثله أو تحميه، وبذلك فإن مفهوم الأمن القومي لا يتطابق بالضرورة مع المصالح الوطنية، بل يتجاوزها وفي بعض الأحيان يتناقض معها بغية الحفاظ على القيمة العليا للدولة.
وينطوي تحقيق الأمن القومي على نهج شامل يتضمن جمع المعلومات الاستخباراتية، وصنع السياسات، والتعاون الدولي، وتنفيذ الإستراتيجيات والتدابير؛ للتخفيف من التهديدات المحتملة والرد عليها.
أما الهدف الأعلى والأسمى للأمن القومي فيكمن في حماية مواطني الدولة وأصولها وقيمها، مع ضمان التنمية المستدامة والازدهار للبلاد.
تطور مفهوم الأمن القومي بشكل ملحوظ مع مرور الوقت، وتكيف مع المشهد العالمي المتغير وظهور تهديدات جديدة. ففي النصف الأول من القرن العشرين كان مفهوم الأمن القومي يتمحور بشكل أساسي حول حماية سلامة أراضي الدولة وسيادتها. ومع ذلك، عندما أصبحت المجتمعات أكثر ترابطاً وتعقيداً، اتّسع المفهوم ليشمل أبعاداً أخرى مختلفة.
يتضمن الأمن القومي مفهوم الأمن التقليدي الذي يركز على القدرات العسكرية للدولة، وقدرتها على الدفاع عن نفسها ضد العدوان الخارجي. وشمل ذلك الحفاظ على جيش قوي، وتطوير الأسلحة، وإقامة تحالفات مع دول أخرى.
لكن مع الوقت تم تطوير مفهوم الأمن غير التقليدي الذي يشمل التهديدات غير العسكرية للدولة والمجتمع؛ مثل مواجهة تغير المناخ، والإرهاب، والحرب السيبرانية، والأوبئة، والجريمة المنظمة. ومع ظهور العولمة في بداية التسعينات من القرن الماضي، برز مفهوم الأمن البشري. وشدد على ضرورة حماية الأفراد من التهديدات التي تهدد رفاهيتهم، بما في ذلك، الفقر والمرض والتدهور البيئي وانتهاكات حقوق الإنسان، إضافة إلى ضمان الأمن البشري المستند إلى تعزيز التنمية المستدامة.
وخلال العقدين الماضيين تم تبني مفهوماً أكثر شمولية للأمن القومي الذي بات يستند الى دمج أبعاد مختلفة لمعالجة تحديات معقدة ومترابطة. وتتضمن هذه الأبعاد العوامل الاقتصادية والسياسية؛ وهي تستند إلى الترابط بين الأمن القومي والجوانب الأخرى لرفاهية الأمة. وأدى دخول العالم في العصر الرقمي إلى ظهور تهديدات جديدة في شكل هجمات إلكترونية وانتهاكات للبيانات الخاصة بالدول والشركات والافراد.
لذلك، بدأت سياسات الأمن القومي في التركيز على أهمية حماية البنية التحتية الحيوية، وأنظمة المعلومات، والبيانات الشخصية من التهديدات السيبرانية.
أيضاً، في ضوء التحديات العالمية مثل تغير المناخ والإرهاب والأوبئة، أصبح مفهوم الأمن القومي يهتم بشكل متزايد بموضوع التعاون الدولي. لذلك؛ فإن الجهود التشاركية والتعاونية باتت تلعب دوراً حيوياً في معالجة قضايا الأمن العالمي، وتتضمن هذه الجهود تبادل المعلومات الاستخبارية بين الدول، والتدريبات العسكرية المشتركة بين جيوشها، إضافة إلى المعاهدات الدولية التي من شأنها تعزيز التعاون الدولي. وقد ظهر عدد كبير من المفكّرين الذين أسهموا في بلورة مفاهيم الأمن القومي مثل جورج كينان[1] وجون ميرشايمر[2] ومايكل هوارد[3] وروبرت آرت[4] وهنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي وغيرهم.
الأمن القومي الإسرائيلي
بالنسبة للكيان الصهيوني فقد قام بالأساس على فكرة تحرير اليهودي (الأوروبي) من الغيتو وعلى تأمين ملاذ آمن. ومن أجل تحقيق هذا الهدف الذي شكل القيمة العليا للكيان، وبالتالي، فهو شكل العنصر الأساس لمفهومه للأمن القومي. والقادة الصهاينة استندوا إلى عدة عوامل رأوها تضمن تحقيق هذه القيمة العليا. ومن ضمن هذه العوامل الحفاظ على قوة عسكرية قوية جداً ومتفوقة على مجموع القوى العسكرية العربية كماً ونوعاً.
تمتلك "إسرائيل" قوة عسكرية ذات قدرة عالية ومتقدمة تكنولوجياً، بما في ذلك قوات الدفاع الإسرائيلية ووكالات الاستخبارات مثل الموساد. وقد جهز الجيش الإسرائيلي "للدفاع عن إسرائيل من التهديدات الخارجية" وضمان تفوقها العسكري في منطقة الشرق الأوسط. ولأن "إسرائيل" لا تمتلك عمقاً جغرافياً وترى نفسها محاطة بالأعداء، فقد طوّرت إستراتيجية لنقل المعركة إلى أرض الخصم حتى تضمن أمن المستوطنات والتجمعات السكانية اليهودية أثناء الحروب.
تمتلك "إسرائيل" أجهزة استخبارات قوية، تلعب دوراً حاسماً في جمع المعلومات حول التهديدات المحتملة، داخل البلاد وخارجها. وتركز "إسرائيل" أيضًا على "مكافحة الإرهاب" لمحاربة جماعات المقاومة المسلحة التي ترى أنها تشكل تهديداً لأمنها مثل المقاومة الإسلامية (حزب الله) في لبنان، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها في الأراضي المحتلة من فصائل المقاومة.
تعمد "إسرائيل" للحفاظ على تفوّق نوعي على العرب عبر العمل على تحقيق تفوق تكنولوجي كبير عليهم، فقامت بتسخير ابتكاراتها التكنولوجية لتعزيز قدراتها الأمنية الوطنية. و كانت في طليعة تطوير تقنيات الدفاع المتقدمة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الصاروخي وأدوات الدفاع السيبراني وتقنيات جمع المعلومات الاستخبارية.
إضافة إلى ذلك فإن "إسرائيل" استفادت من تعاطف ودعم وانحياز الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية لصالحها؛ بتطوير تحالفات إستراتيجية معها ومع عدة دول غربية لتامين الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري. وتسهم هذه التحالفات في تعزيز الأمن القومي لـ"إسرائيل" من خلال تعزيز مكانتها على المستوى الدولي وتعزيز ردعها ضد أعدائها.
وأخيراً فإن "إسرائيل" تعتمد على قوتها النووية التي طورتها على مدى عقود سابقة بالسر، وبدعم من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وهي تعتمد على مبدأ الغموض النووي، إذ إنها لا تؤكد ولا تنفي امتلاكها للأسلحة النووية. ويهدف هذا الغموض إلى ردع أدائها وفي الوقت نفسه عدم إعطاء مبرر لهم للاستحواذ على أسلحة نووية.
عملية طوفان الأقصى وميزاتها
بناء على ما تقدم، نجد أن عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" قد شكلت ضربة قاسية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي؛ ففي صباح 7 تشرين/ أول أكتوبر اخترقت قوة لا يتجاوز عددها ألفي مقاتل، السياج الأمني الإسرائيلي المحيط بقطاع غزة، وتمكنت من اجتياح كامل القواعد والمستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة بعمق 40 كيلومتراً داخل الأرضي التي احتلتها "إسرائيل" في العام 1948. ونقلت كاميرات معلقة على رؤوس المقاتلين للعالم أجمع مشهد مئات الجنود الإسرائيليين يُقتلون بيد المقاتلين الفلسطينيين، إضافة إلى مئات آخرين يؤسرون. وكان هذا مشهداً غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
شكل الهجوم ضربة قاسية للأمن القومي الإسرائيلي في عدة نواح؛ من جهة الهجوم كسر أحد أهم عناصر هذا الأمن وهو التفوق التكنولوجي، إذ إن الفريق السيبراني التابع لحماس كان قد تمكن من تعطيل أنظمة الإنذار المبكر الإلكترونية ما سهل عملية الاقتحام المباغت.
إضافة إلى ذلك ففي عملية المواجهة الميدانية وجهاً لوجه، ثبت أن المقاتل الفلسطيني يتفوق على المقاتل الإسرائيلي من حيث الكفاءة القتالية. والأهم من ذلك، المقاومة الفلسطينية استطاعت أن تنقل المعركة إلى العمق الصهيوني، وإلى داخل المستوطنات، ما جعلها توجه ضربة قاصمة إلى العقيدة الأمنية الصهيونية القائمة على نقل المعركة إلى أرض الخصم، أخيراً والأهم، أن المقاومة الفلسطينية أظهرت أن المستوطنات غير آمنة بالنسبة للمستوطنين، بل إن مجمل أراضي فلسطين ليست آمنة لهم خصوصاً أن صواريخها قادرة على أن تطال أي مكان في فلسطين المحتلة.
خلاصة
وفقاً لنظرية الأمن القومي؛ عندما يهدد الأمن القومي كياناً سياسياً ما فهو ينذر بزوال هذا الكيان. وبالنسبة للكيان الصهيوني؛ ما تعرض له في 7 تشرين الأول/ أكتوبر شكل ضربة قاصمة لهذا الكيان، وما المجازر التي يرتكبها قادته إلا محاولة يائسة من قبلهم لترميم هذا الضرر البنيوي الذي أضرّ بأمنهم القومي.
وما فاقم الأزمة هذه، أنه بعد نحو أربعين يوماً على قصف جيش الكيان لقطاع غزة، ومحاولته التوغل فيه، لم يتمكن من تحقيق أي من أهدافه التي أعلنها والتي تهدف إلى إعادة اللحمة للأمن القومي الصهيوني الذي تصدع بشكل كبير.
لكن الجدير ذكره أن هذا قد لا يؤدي إلى زوال تلقائي لهذا الكيان. فـ"إسرائيل" ليست دولة كباقي الدول، ينطبق عليها من قواعد العلوم السياسية ما ينطبق على الكيانات السياسية الأخرى. فـ"إسرائيل" كيان وظيفي بل قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، وتشكل امتداداً لرأسمالية عالمية صهيونية في منطقتنا.
وبالتالي، فإن زوالها ليس مرهوناً فقط بمدى الضرر الذي يتعرض له أمنها القومي، بل هو مرهون أيضاً بتراجع القوة الأميركية من جهة وتراجع سطوة الرأسمالية الصهيونية العالمية من جهة أخرى. وهذا ما يجعل من نضال الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني رأس الحربة في النضال العالمي ضد الإمبريالية الأميركية من جهة، وضد الرأسمالية العالمية الصهيونية من جهة أخرى.