عبر "أوكوس" و"كواد" واستقطاب آسيان.. بايدن يتمسك بأحادية مهزومة
المشروع الأميركي في شرق آسيا يستند إلى تحالفات متعددة تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى ملء فراغ يسببه غياب حلف متكامل واضح المعالم كحلف شمال الأطلسي.
عبر مسار طويل من التحولات التي طالت فلسفة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، لم تكن السياسات الأميركية في المراحل السابقة أقل حيوية من المرحلة الحالية. وإذا كانت السياسة الخارجية التي تبناها باراك أوباما عند وصوله إلى الحكم في العام 2009 شهدت تحولاً للملمة آثار المرحلة الطويلة التي وُسمت بالتدخلية والقوة الصلبة، والتي كان من نتائجها احتلال العراق وأفغانستان، إضافة إلى تشدد غير مسبوق تجاه عدد من الملفات الحساسة، كالتجارب النووية الكورية الشمالية، وبرنامج الجمهورية الإسلامية الإيرانية النووي السلمي، فإن ما تم التأسيس له، عبر القوة الذكية، لا يعتمد رؤية متعارضة مع ما سبق، إنما يشكل اختلافاً في الوسائل، إذ كانت الغاية دائماً ضمان تفوق الولايات المتحدة وتربعها على قمة النظام العالمي.
وبالعودة إلى حقبة باراك أوباما أو الحقبات التي سبقتها، فقد بدا واضحاً أن السياسات الأميركية التي وُصفت بالنشطة والعدائية كانت تتجنب خوض تحديات مع القوى الكبرى، كالصين وروسيا، فاليقين الذي كرّسته المنظومة الفكرية الأميركية في تلك المرحلة أمكن تعريفه بمحاولة محاصرة القوى الكبرى المناوئة وإسقاط حلفائها، بحيث يمكن تطويعها من دون الحاجة لتحديها وتعريض العالم لحرب مدمرة قد تتطور إلى حرب نووية.
ولذلك، رفعت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الباردة سقف تهديداتها، وتبنت سياسات تشبه إعلان الحرب ضد العديد من الدول التي تشكل امتداداً حيوياً للقوى المُصنفة أميركياً على أنها مناوئة.
ولكنَّ الواقع الدولي، بتعقيداته، لم يتوافق مع خطط البيروقراطية الأميركية الحاكمة، إذ فشلت سياساتها في إخضاع ما عرّفته بالدول المارقة، فالنتيجة النهائية للاحتلال العسكري للعراق وأفغانستان أظهرت فشلاً، إذ إنَّ الانسحاب من العراق وقع من دون توقيع اتفاقية تكرس الهيمنة الأميركية، وأمكن توصيف الخروج من أفغانستان بالانسحاب العشوائي والمذلّ.
من ناحية أخرى، لم تكن القوى الدولية المهددة لموقع الولايات المتحدة الأميركية، المهيمن عالمياً، مسلّمة بواقع التوازنات الدولية التي أفرزتها الحرب الباردة، إذ عمدت إلى تطوير علاقاتها ومراكمة إمكانياتها، حتى أضحت تقارب الملفات الدولية من منطلق الحلف أو التكتّل المؤمن بنهائية مصالحه المشتركة والقادر على المبادرة، من دون أن يكتفي برد الفعل.
وبناءً عليه، لم تكن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مصنَّفة خارج هذا السياق، إذ إن الدولة الروسية، في مقاربتها السلوك الأوكراني، جزمت بضرورة التحرك لفرض توازنات تمنع محاصرتها وتقييدها في حدودها الغربية.
وفي تحليل التقدير الروسي للسلوك الأوكراني، يمكن استنتاج اليقين الروسي، بتحرك أميركي، تحت غطاء مشروع زيلينسكي. في المقابل، لم تكن الأحداث المتلاحقة في شرق آسيا بعيدة عن هذا التحرك، فالعديد من الدلالات تؤكّد ترابط تلك الأحداث وفق مشروع يؤكد مواجهة حتمية مع الطرف الأميركي.
الإصرار الأميركي على تطوير قمة "كواد" وتحويلها من مجموعة ودية غير رسمية إلى تحالف يعكس رؤية الولايات المتحدة الأميركية في شرق آسيا، فمن شراكة تشكلت رداً على الزلزال المدمر والتسونامي الذي وقع في العام 2004 في المحيط الهادئ، انطلق المشروع الأمني لهذه المجموعة، وتطوّر مع رؤية رئيس الوزراء الياباني شنزو آبي التي عرضها في العام 2008 عن آسيا أوسع نطاقاً تضم الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا، وتتشارك قيماً أساسية، كالحرية والديمقراطية، إضافة إلى مصالح استراتيجية مشتركة.
وإذا كانت مبادرة شينزو آبي أُجهضت في ذلك الوقت بسبب الضغوط الصينية، فإنَّ الإصرار الأميركي على مواجهة الصين أعاد إحياءها في العام 2017. وإذا بدا واضحاً أنَّ هذه الشراكة لا تشبه الاتفاقيات المؤسسة لحلف الناتو، فإن تركيزها ضمن اهتمامات أخرى على التعاون العسكري الأمن والحفاظ على منطقة المحيطين الهادئ والهندي حرتين ومفتوحتين، مع تسليط الضوء على الإرهاب والنزاعات الإقليمية، يؤكّد محاولة استغلالها في مهمة تشبه وظيفة حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا.
بالتوازي مع "كواد"، يجب الإشارة إلى "أوكوس"، حيث توجد شراكة أمنية ودفاعية بين 3 بلدان، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، تؤسس لحقبة من التحالفات الهادفة إلى حفظ المصالح المباشرة للولايات المتحدة الأميركية في المحيط الهادئ، من دون أي تقدير لمصالح الحلفاء، إذ إنها جاءت على حساب صفقة غواصات فرنسية لأستراليا.
وعندما يتمّ الإعلان عن أنَّ الهدف من "أوكوس" يتمحور حول ضمان استقرار العالم، من خلال تعزيز تطوير القدرات التكنولوجية في المياه الدولية، الموصوفة بالمضطربة، فمن الواضح أنَّ هذا الهدف ينسجم مع أولويات الولايات المتحدة المتمثلة بمواجهة الصين.
أما الزيارة الأخيرة للرئيس الأميركي جون بايدن إلى كوريا واليابان، فمن الواضح أنها لا تُعتبر صفارة انطلاق لرؤية أميركية جديدة في المنطقة. بعد أيام من الإعلان عن تحالف "أوكوس" في أيلول/سبتمبر 2021، استضاف الرئيس الأميركي قمة مجموعة "كواد" ضمن هدف مشترك يتمثل بمواجهة الصين.
أما الزيارة الأخيرة التي شهدت إطلاق الرئيس الأميركي جون بايدن تهديدات باستخدام القوة العسكرية ضد أيّ تحرك عسكري صيني في تايوان، فقد سبقها قبل أيام استضافة الولايات المتحدة قمة آسيان، إذ تم الإعلان، بلغة صريحة، عن نية الولايات المتحدة تعزيز وجودها وعلاقاتها في المنطقة في مواجهة الطموحات الصينية، مع التركيز على محاولة تجنيد دول آسيان من أجل هذه المهمة عبر وعود بمزايا مالية وعسكرية ضخمة.
وبناءً عليه، يمكن القول إنَّ المشروع الأميركي في شرق آسيا يستند إلى تحالفات متعددة تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى ملء فراغ يسببه غياب حلف متكامل واضح المعالم كحلف شمال الأطلسي، فتجربة حلف الناتو المُتفق على مهماته تقريباً في أوروبا، لا يمكن إسقاطها على شرق آسيا، فالعلاقات الاقتصادية المتداخلة مع الصين، وضعف الإمكانيات العسكرية للدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، تجعل عملية بناء حلف متكامل أمراً مستحيلاً.
لذلك، إن القدرة الأميركية على المناورة في شرق أوروبا، استناداً إلى قوة حلف الناتو والإجماع الأوروبي على المخاطر والتهديدات الأمنية القادمة من الشرق، لا تتوفر في مواجهة الصين.
وإذا كانت الصّين واثقة بما سبق، فإنها لم تقابل الحراك الأميركي الأخير باسترخاء، إذ عبرت عن رفضها، عبر دبلوماسييها، للغة التهديد التي أطلقها الرئيس الأميركي، ثم إنَّ مزامنة لقاء قمة "كواد" مع طلعات طائرات صينية وروسية قرب مكان انعقاد القمة، وتوقيت إطلاق تجربة صاروخية كورية شمالية مع اختتام الرئيس الأميركي زيارته إلى طوكيو، يؤكدان تعقيدات المنطقة، فصلابة الموقف الصيني المتكامل في توجهاته مع الاهتمامات الاستراتيجية الروسية، إضافةً إلى انعدام أفق كوريا الشمالية، في حال فقدانها حليفها الصيني، تؤكد أن السيناريو الأميركي المطبّق في شرق أوروبا لا يصلح لإدارة العمليات في شرق آسيا.
وأخيراً، من المسلم به عدم قدرة الولايات المتحدة على استكمال تطويق روسيا والصين إلا عبر سلسلة متكاملة من الأحلاف الحيوية والضرورية لتحقيق المهمة. وإذا عدنا إلى تاريخ العلاقات الصينية الروسية من بوابة الأحلاف والمعاهدات التي جمعت الدولتين، فإنَّ محاولة القفز فوق الأحادية الأميركية كرست العمل الجماعي المستند إلى الندية والمصالح المشتركة، في حين أنَّ العقل الأميركي ما زال يترنح في خانة الأحادية المتفوقة المؤمنة بالمصلحة الأميركية فقط، كمعيار لسياساتها وتحالفاتها عبر التاريخ والجغرافيا.