عام الاستدارات وإعادة التموضع الخليجي
التحديات الإقليمية والدولية، السياسية والأمنية، ما زالت تفرض نفسها على دول الخليج على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ملف.
سجَّل العام 2021 جملةً من الأحداث والتحولات والتغيرات الخليجية، أهمها الانتقال من لغة الحرب والتصعيد والتصادم إلى لغة السياسة وفتح أبواب الحوار وخوض التفاهمات ومحاولة تصفير المشاكل.
هذه التحولات ساهمت في صياغتها مجموعة من العوامل، منها وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، والتراجعات الإقليمية على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ملف، في لبنان وسوريا واليمن، إضافةً إلى فشل خيار المقاطعة مع قطر، ما دفع بعض دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، إلى إعادة التموضع.
فرض وصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض تحدّياته منذ تنصيب بايدن في أوائل العام، وهو الَّذي توعَّد بمعاقبة السعودية وإنهاء حرب اليمن، ثم باشر في أواخر العام 2021 بالانسحاب من أفغانستان، الأمر الذي ساهم في دق ناقوس الخطر بشأن أمن دول الخليج المرتبط استراتيجياً بالحماية الأميركية لهذه المنطقة، ما عزّز المخاوف الأمنية بسبب الطريقة التي انسحبت فيها واشنطن من أفغانستان.
هذه المتغيرات دفعت السعودية تدريجياً إلى إعادة النظر في سياساتها، والعمل على ترتيب البيت الخليجي الداخلي عبر المصالحة مع قطر، سواء كما حصل في أوائل العام في قمة العلا، أو كما حصل مؤخراً في القمة الخليجية الـ42، وما سبقها من جولة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان للدول الخليجية، من أجل تنسيق المواقف ما قبل القمة، بالتوازي مع إعادة تموضع إماراتي سعودي في الملفات الإقليمية، أبرزها العلاقة مع تركيا أو إيران؛ ففيما تقدّمت الإمارات خطوات في مسار إعادة تطبيع العلاقة مع أنقرة وطهران، إضافةً إلى سوريا، خطت السعودية خطوات بطيئة في هذا الاتجاه، بانتظار أن يتبيَّن الخيط الأبيض من الأسود في الملف النووي مع إيران، مبقيةً الخيارات جميعها مفتوحة.
صحيح أنَّ لغة المواجهة تراجعت في هذا العام، وتقدّمت لغة السياسة إلى صدارة المشهد، إلا أنَّ التحديات الإقليمية والدولية، السياسية والأمنية، ما زالت تفرض نفسها على الخليج على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ملف، ويمكن إجمالها في عناوين رئيسية.
أولاً: الاتفاق النووي مع إيران
هذا الاتفاق، إذا ما أُنجز، سيضع الخليج في مواجهة تحدّياته على الصعيدين السياسي والاقتصادي. سياسياً، تحقّق طهران تفوقاً أمام الخليجيين في عددٍ من الملفات الإقليمية الرئيسية، منها لبنان وسوريا واليمن، والملف الأخير يعدّ أكبرها، إذ يتمدد حلفاء إيران جنوب السعودية، ويسيطرون على المناطق الواحدة تلو الأخرى، ليتبخَّر "الحزم والأمل"، ويجعلون من مسألة تحقيق السعودية انتصاراً في الحرب أمراً صعباً، والحديث هنا عن حركة "أنصار الله".
هذا الأمر يدفع إلى التساؤل عن الخيارات الخليجية، وتحديداً خيارات السعودية والإمارات، اللتين قادتا حلف مواجهة إيران: هل تذهبان نحو التسوية مع طهران أو تستديران مجدداً نحو التصعيد؟ بالنسبة إلى السعودية، يبدو أن الأمر ستحدده بوصلة مآلات الاتفاق النووي. أما الإمارات، فيبدو أنها ذاهبة نحو خيار التسويات وتثبيت سياسة التهدئة.
ثانياً: الحرب على اليمن
في هذا الملفّ، يبدو جلياً أنّ الحرب تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة ومستنقع يصعب الخروج منه بتحقيق انتصار، ما يفرض مسار التسويات على الرياض، إلا في حال حدوث تغيرات كبرى في موازين القوى على الأرض، فهل الرياض مستعدة لخوض التسوية التي تعثّرت أكثر من مرة؟ وهل يكون العام 2022 عام إنهاء الحرب؟ هذا الأمر لن يكون مفاجئاً، ولكن لم تكتمل مؤشراته بعد.
ثالثاً: العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية
بحسب ما هو واضح للعيان، العلاقات الأميركية الخليجية ليست في أحسن أحوالها في عهد بايدن. أصبح هناك ما يشبه القناعة الخليجية بأنَّ من غير المجدي الارتكاز على حليف واحد، وأنَّ الوقت حان لتوسيع شبكة التحالفات، مع الإبقاء على العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية في الصدارة.
على الرغم من قوة هذا التحالف التاريخي، فإنَّ هذه العلاقة شهدت بعض التصدّعات وحالة من عدم الارتياح صعوداً وهبوطاً منذ فترة الرئيس باراك أوباما، كما أنَّ هناك شعوراً خليجياً عاماً بأنَّ الولايات المتحدة لم تعد، كسابق عهدها، قوة عظمى، كما لم تعد المتحكّم الأوحد في القرارات الدولية، وخصوصاً مع دخول الصين وروسيا على خط المعادلة الدولية، في عالم يبدو أقرب إلى التحول نحو التعددية القطبية.
وعلى الرّغم من تأكيد الولايات المتحدة التزامها بأمن الخليج، فإنَّ ما حدث في أفغانستان من انسحاب وُصف بالفوضوي أثار الهواجس الخليجية مع رغبة واشنطن في الانسحاب من المنطقة والتوجه شرقاً، إضافة إلى ما يقوله السعوديون حول تعرّض الرياض لهجوم يمنيّ طال شركة "أرامكو"، فيما وقفت واشنطن متفرجة، ولم تفعل شيئاً، ما يراكم الشكوك الخليجية حول هذا الالتزام.
في أيِّ اتجاه يدير الخليج تحالفاته؟ في الحقيقة، هناك تباينات خليجيّة بشأن التطبيع مع "إسرائيل" والتشبيك مع الصين، كما حالة الإمارات، والالتزام بالعلاقة مع واشنطن، على الرغم من حالة عدم الارتياح، كحالة الكويت، أو التشبيك مع قوى إقليمية والانخراط في مشاريع عابرة للجغرافيا، كحالة العلاقة القطرية التركية، ولكن واقعاً، لا توجد رؤية خليجية موحدة تحرّك الخليج ككتلة واحدة في مواجهة التحدي الأمني. وهنا، وضع ملف العلاقات الخليجية نفسه على رأس التحديات.
رابعاً: العلاقات الخليجية البينية
هذا الملفّ هو العمود الفقري لكلِّ التحديات، فدول الخليج فشلت في تحقيق الوحدة، كما فشلت في وضع رؤية موحّدة إزاء أمنها. التباينات بشأن طريقة التعاطي مع التحديات حاضرة، وأدى بعضها إلى حدوث خلافات حد القطيعة، كما حدث مع قطر. وعلى الرغم من المحاولات السعودية مؤخراً للملمة البيت الداخلي، فإنَّ السؤال بشأن نجاح ذلك ما زال يدور حوله علامات استفهام. السؤال الملح: كيف لهذا الخليج أن ينتقل خطوات نحو التكامل السياسي والأمني والاقتصادي؟
في الحقيقة، ما زال هذا الأمر يبدو بعيد المنال، كما يبدو أنَّ الخطوات ثقيلة نحو الوحدة، وأقرب إلى المزيد من التفكّك.