شمالي أفريقيا: انهيار في دوامة القطبين
ما يبدو عليه الأمر حالياً هو أن الوضع في منطقة شمالي أفريقيا يتدهور بصورة متسارعة بسبب نمو أسعار المواد الغذائية، والصراعات الإقليمية المتواصلة.
فاقمت الأزمة الروسية - الأوكرانية الاضطرابات الاقتصادية في مناطق كثيرة في العالم، أبرزها في دول شمالي أفريقيا، التي تضم المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان. وهي اليوم تشهد تنافساً على كل أنواع الموارد.
فالمغرب يتمتع بمورد استراتيجي يشكل أساساً في الأمن الغذائي العالمي، هو الفوسفات، المستخدَم في إنتاج الأسمدة. وتونس لديها أيضاً الفوسفات، لكن بكميات أقل.
أمّا مصر فتسيطر على قناة السويس، وهي إحدى طرق النقل الرئيسة في العالم، بحيث يتم عبرها توصيل النفط (نحو مليار برميل من النفط والمنتوجات النفطية يومياً: 10% من شحنات النفط العالمية) وغيره من السلع من الشرق الأوسط إلى أوروبا، أي ما يمثل 12% من التجارة العالمية.
أحدثت الصدمات المحلية والخارجية تقلبات كبيرة في الأسواق المالية العالمية، وتزايد الضغوط التضخمية وخدمة الديون.
ووفقاً لبنك التنمية الأفريقي، شهد النمو الاقتصادي حالة انكماش في منطقة شمال أفريقيا بنسبة 1.1% في عام 2022 بعد تراجع النمو الاقتصادي في ليبيا والجفاف في المغرب. ومن المتوقع أن يستقر النمو الاقتصادي الإجمالي في المنطقة عند 4.3% في العام الجاري بفضل الاستثمار المشروط من جانب الشركات الغربية في تطوير البنية التحتية للطاقة في مصر والمغرب، ومعالجة الأحداث الدائرة في السودان وليبيا، وخفض التوترات السياسية في تونس.
أدّى تدهور الوضع المالي العالمي إلى زعزعة استقرار سوق العملة، في معظم البلدان الأفريقية، وخصوصاً في الاقتصادات المصدّرة للسلع الأساسية مع انخفاض قيمة العملات المحلية بصورة كبيرة في مقابل الدولار الأميركي. والجزائر هي أحد حلفاء روسيا الرئيسين في المنطقة.
تحافظ روسيا على علاقات جيدة بالمغرب، وتسعى روسيا، سياسياً واقتصادياً، لتخفيف التوترات بين البلدين، وهي ترى أن الحشد العسكري الحالي، ونشر الأسلحة عند الحدود المغربية - الجزائرية، سيؤديان إلى اشتعال "حريق كبير" في المنطقة. لذا، تعمل موسكو على إيجاد حلول تمنع التدخل الغربي من تنفيذ مخططاته وتقسيمه تلك الدول وسرقة خيراته.
أمّا تونس فلا تزال تتعرض لضغوط غير مسبوقة من الغرب، في مجال الأمن الغذائي، ولا سيما القمح. وعلى رغم علاقات تونس الواسعة بالدول الأوروبية، فإن الرئيس سعيد يرى ضرورة تقليل اعتماد البلاد مالياً على الغرب. وسبق للاتحاد الأوروبي، الذي يُعَدّ شريكا تقليديا لتونس، إن اتخذ قراراً غير مسبوق يقضي بعدم إرسال مراقبين في الانتخابات النيابية التي حدثت بإشارة إلى النأي بالنفس عن حكومة سعيد "غير الديمقراطية"، في الوقت الذي أرسلت واشنطن رسالة صريحة حين انتقدت "الاستبداد في البلاد، وخفّضت مساعداتها المالية لتونس إلى النصف في عام 2023.
وتأتي هذه التطورات السياسية وسط فترة جفاف طويلة الأمد في دول المغرب العربي، مع ضعف القطاع الزراعي في تونس، إذ إن خزاناتها المائية حاليا ممتلئة بنسبة 30-50% فقط.
وتُعَدّ الزراعة القطاع الأكثر استهلاكاً للمياه في تونس، الأمر الذي يصل إلى 80% من المياه العذبة في البلاد تستخدم لزراعة الفواكه والخضروات، التي يتم تصّديرها في الغالب. وقد يصبح نقص المياه قريباً، والزراعة، عاملين من عوامل عدم الاستقرار في البلاد.
أمّا المغرب فتضرّر بشدة، كونه مستورداً للطاقة والغذاء بسبب تقلب أسعار السلع الأساسية، نتيجة للعملية العسكرية في أوكرانيا. واتخذت الحكومة المغربية تدابير شاملة للحيلولة دون تخفيف العبء الاقتصادي عليها. وإن توقيع الرباط و"تل أبيب" معاهدة سلام، والاعتراف بالدولة اليهودية، وإقامة علاقات دبلوماسية بها، أمرٌ أدى إلى تعميق الخلاف بين المغرب وتونس والجزائر. ويراهن الغرب على اشتعال الخلافات بشأن القضايا الأكثر حساسية بالنسبة إلى المغرب، وخطة تسوية الصحراء الغربية، وهو ما سيكون له تأثير سلبي أكبر في الأمن الإقليمي. أمّا للسودان ومصر وليبيا فحصة كبيرة من الصراعات والمخططات.
ما يبدو عليه الأمر حالياً هو أن الوضع في منطقة شمالي أفريقيا يتدهور بصورة متسارعة بسبب نمو أسعار المواد الغذائية، والصراعات الإقليمية المتواصلة، والسياسات غير الفعالة من إصلاحات اقتصادية وإدارية وأضرار بيئية ومناخية مدمرة للظروف المعيشية. وحتى الدول المصدّرة للنفط، تواجه مشاكل في إيرادات الميزانية. ولا تزال دول شمال أفريقيا تكافح مع عدد من التحديات طويلة المدى، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية، بما في ذلك ارتفاع مستوى البطالة (وخصوصاً بين الشبان)، وانخفاض معدل المشاركة في القوى العاملة بالنسبة إلى النساء، وإلى الافتقار إلى التعليم العالي الجودة، وعدم كفاءة القطاع العام، وارتفاع نفقات الأمن والدفاع وغيرها. وتمر بلدان شمالي أفريقيا في فترة طويلة من عدم الاستقرار الداخلي والتوترات بين الدول. وهي غير قادرة على معالجة القضايا والمشاكل في الوقت الراهن، في ظل انقسام المجتمعات على نفسها بشأن العملية العسكرية في أوكرانيا، والتدخلات المستمرة للغرب، في حين تتجه روسيا الى التركيز على دول أفريقيا ومد العون لها، في الوقت الذي تبدو تلك الدول مستعدة لتكثيف الشراكة والتعاون مع روسيا من خلال مجموعة واسعة من المجالات ذات الاهتمام المشترك.