شراكة سورية-صينية استراتيجية: هل حان وقت إعادة الإعمار؟
معظم التحليلات والقراءات السياسية، تذهب في اتجاه ترجيح كفة أن الظروف المواتية لدخول الصين على خط مشروع إعادة الإعمار في سوريا بمفهومه الواسع والكبير لم تتبلور بعد.
لأسباب كثيرة، بعضها سياسي متعلق بالعلاقة الوثيقة التي تربط دمشق ببكين والآخر اقتصادي مرتبط بقدرات الصين وإمكانياتها الضخمة، ثمة قناعة لدى عديد من الأوساط السورية تقول: إن فرصة إعادة إعمار ما دمرته الحرب ستكون مرهونة بانفتاح اقتصادي صيني واسع على سوريا، وما عدا ذلك من خيارات لا يعدو في الوقت الراهن سوى حسابات نظرية مدخلها الأساس إنجاز تسوية سياسية شاملة إقليمية ودولية للأزمة السورية.
ومع أن عمليات إعادة الإعمار تشكل عادة جوهراً لسياسات عديد من الدول باعتبارها فرصاً اقتصادية مغرية لشركاتها ومؤسساتها، بيد أنها في الحالة السورية تبدو مقيّدة بعوامل أخرى تحدد توقيت عملية إعادة الإعمار وحدودها ومجالاتها. إذ لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار في سوريا اليوم ما لم يتم تبريد جبهات المواجهة العسكرية، استقرار الأوضاع الأمنية بشكل شبه تام، إعادة هيكلة البنية التشريعية الاقتصادية في البلاد، ضمان تحقيق عائد سياسي واقتصادي لضخ مليارات الدولارات، وما إلى ذلك من مقومات هي أقرب إلى الضمانات منها إلى الشروط والمطالب.
في هذا المقال سنحاول، وتزامناً مع زيارة الرئيس بشار الأسد إلى بكين، قراءة أفق المساهمة الصينية المحتملة في عملية إعادة الإعمار، حدودها، متطلباتها، والصعوبات التي تواجهها.
أولويات إعادة الإعمار
يرتبط الحديث عن إعادة الإعمار عادة في مخيلة الكثيرين بإعادة بناء الأحياء والمناطق السكنية المدمرة والمتضررة، وما يرتبط بها من مرافق عامة وبنى تحتية محلية، فيما هذا الأمر، وعلى أهميته الاقتصادية والاجتماعية لشريحة واسعة من السكان، لا يعدو كونه تفصيلاً واحداً من مجموعة تفاصيل غالباً ما تكون أعقد وأكثر تكلفة. ويمكننا تحديد مجالات إعادة الإعمار في سوريا بالبنود الآتية:
- إعادة بناء ما تهدم من وحدات سكنية ومتمماتها من بنى تحتية ومرافق خدمية محلية. والتقديرات الأولية الرسمية هنا تتحدث عن أن عدد الوحدات السكنية التي تعرضت للضرر الجزئي والكامل في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وصل إلى أكثر من 215 ألف وحدة سكنية، إضافة إلى تضرر البنى التحتية بنسب متفاوتة بين المحافظات، إذ وصل أعلاها في محافظة الرقة حيث تشير التقديرات بتضرر ما يقرب من 78% من بناها التحتية.
فمحافظة دير الزور بنسبة ضرر قدرت بنحو 67% ثم محافظة الحسكة 60%. مع الإشارة إلى أن التقديرات غير الرسمية تقول بتضرر ما يزيد على مليون ونصف المليون منزل خلال سنوات الحرب. لكن، في جميع الحالات، فإن إعادة بناء ما تهدم وتضرر في قطاع السكن ومرافقه يحتاج إلى تقنيات وتجهيزات متطورة في مجال التشييد والبناء، تساعد على سرعة الإنجاز وبأقل التكاليف الممكنة بالنظر إلى حجم الدمار الحاصل، وليس هناك حالياً أفضل من الشركات الصينية لهذه المهمة، وليبقى العائق الأكبر توفير التمويل اللازم، والذي كان قد قدّره سابقاً عبد الله الدردري أثناء توليه إدارة مشروع الأجندة السورية في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) بأكثر من 100 مليار دولار.
- إعادة بناء المنشآت الصناعية والخدمية والبنى التحتية الرئيسية بجميع حالاتها سواء المتضرر منها أو الذي لم يتعرض للضرر المباشر. فإذا كان الأول يحتاج إلى إعادة بناء كامل بما يتوافق والاحتياجات والإمكانيات والسياسات الاقتصادية الجديدة في البلاد، فإن تحديث تقنيات وآليات عمل المنشآت القائمة وتطويرها لا يقلان أهمية عن السابقة، إذ إن المنشآت الصناعية والخدمية والتجارية بمعظمها تخلفت في قدراتها وإمكانياتها التكنولوجية الإنتاجية نتيجة الأوضاع الاقتصادية التي منعتها من مواكبة ثورة التحديث التكنولوجي والتقني.
وحسب تقديرات وزارة الصناعة، فإن الخسائر التراكمية لقطاع الصناعات التحويلية وصلت إلى أكثر من 23.5 مليار دولار بنهاية العام 2019، وإذا ما تمت إضافة خسائر البنى التحتية الرئيسية من طاقة ومياه واتصالات وطرق وسكك حديد وغيرها فإن الرقم يصبح مضاعفاً وأكثر. فمثلاً، تقدّر الدراسات البحثية المستقلة أن نسبة مساهمة خسائر قطاعات الصناعات التحويلية، النقل والاتصالات، والمرافق الحكومية تشكل ما نسبته 2% من إجمالي خسائر الناتج المحلي الإجمالي والمقدرة في العام 2019 بأكثر من 420 مليار دولار.
وتكمن أهمية المساهمة الصينية في هذا القطاع في التجربة الصينية الرائدة على صعيد المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والتي تشكل تاريخياً وفعلياً العمود الفقري للصناعة السورية، وتالياً فإن الاستفادة من تلك التجربة عبر إعادة بناء هذا النوع من المنشآت وتأهيله من شأنها أن تسهم في إنعاش القطاع خلال فترة وجيزة. وسابقاً، كان هناك مشروع لإقامة مدن صناعية صينية في سوريا لكنه لم يجد طريقه للتنفيذ.
- دخلت بكين قبل فترة الحرب على خط الاستثمار في قطاع الطاقة السوري من خلال بعض عمليات الاستكشاف والتنقيب وإنتاج النفط التي قامت بها شركتا "سي أن بي سي" وساينوبك" الصينيتان، واللتان كانتا تنتجان ما يقرب من 30 ألف برميل يومياً.
هذا فضلاً عن بعض مشروعات التعاون لدعم محطات توليد الكهرباء. ومع ما شهده قطاع الطاقة بفعل الحرب من أضرار تبدو جسيمة، فإن حضور بكين يصبح أكثر أهمية. فمن جهة، المنظومة الكهربائية تحتاج إلى إعادة بناء إذ إن محطات التوليد باتت قديمة ومتهالكة وشبكات التوزيع تعاني من نقص كبير في قطاع التبديل وعمليات الصيانة، ومن جهة أخرى، فإن الفرصة تبدو اليوم سانحة أكثر للشركات الصينية للعمل في مجال الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز، لاسيما مع تفاؤل حكومي بإمكانية اكتشاف حقول جديدة في بعض المناطق الخاضعة للسيطرة، وحالياً هناك شركات روسية وإيرانية تعمل على ذلك أيضاً. ومع استعادة الحكومة السيطرة على حقول النفط والغاز تصبح الفرصة أكبر.
وللدلالة على حجم الاستثمارات التي يحتاجها هذا القطاع ليستعيد نشاطه السابق، نشير إلى أن تقديرات وزارة النفط السورية تتحدث اليوم عن أن خسائر هذا القطاع المباشرة وغير المباشرة تقدّر قيمتها بأكثر من 112 مليار دولار.
-المجال الرابع، ويتمثل في المساعدات الفنية التي يمكن لبكين تقديمها لدمشق بغية تطوير أنشطتها وإدارة شؤونها الاقتصادية والخدمية بشكل مجد، لا سيما في قطاعات أساسية كالزراعة، النقل، الاتصالات، وغيرها. لا بل إن هناك من يدعو إلى إحداث شراكات ثنائية تكون بإدارة صينية بالكامل.
ثلاثة تطورات أساسية
في مقابل هذه الفرصة الاقتصادية المغرية، تجد بكين نفسها مجبرة على مقاربة دخولها على خط إعادة الإعمار في سوريا من خلال ثلاثة تطورات أساسية لا يمكن تجاوزها، وهي:
أولاً- العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، والتي يبدو أنها في طريقها إلى مزيد من التشدد مع مناقشة الكونغرس لمسودات مشروعات عديدة كمكافحة التطبيع مع الأسد. إذ على الرغم من الدعم السياسي الذي توفره بكين لدمشق في مواجهة الضغوط الأميركية، والذي تجسد في استخدامها حق النقض "الفيتو" أكثر من 16 مرة في مجلس الأمن، فإن الحسابات الاقتصادية للشركات الصينية تبدو مختلفة بالنظر إلى ما قد تتسبب به العقوبات الأميركية لها من صعوبات ومشكلات في تعاملاتها التجارية والاستثمارية في الأسواق العالمية.
وهذا ما يجعلها أكثر حذراً من الوقوع في مصيدة العقوبات الأميركية، التي وضعت صراحة عمليات إعادة الإعمار والاستثمار في مجال الطاقة والبناء في صدارة الأنشطة التي تعاقب عليها المؤسسات الأميركية.
ثانياً- المناخ العام السائد في سوريا غير المشجع للاستثمارات العربية والأجنبية سواء لجهة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تعيشها جميع مناطق الجغرافيا السورية وتتسبب في ارتفاع التكاليف وتراجع القوة الشرائية للسكان، هذا فضلاً عن النقص الشديد في حوامل الطاقة، أو لجهة عدم الاستقرار التشريعي والقرارات والإجراءات غير المتوافقة مع ما يتطلبه الاستثمار الضخم في هذه المرحلة.
ولا ننسى بالطبع ما أفرزته اقتصاديات الحرب من طبقة أثرياء تحاول الاستحواذ على كل شيء، وهي تشكل عاملاً محبطاً في تحسين بيئة الأعمال وعوامل الجذب الاستثماري.
ثالثاً- متطلبات مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها الصين منذ سنوات ووقعت سوريا على اتفاقية الانضمام إليها في العام 2022. وتوفير متطلبات إخراج هذه المبادرة إلى حيز الوجود ستكون لها الأولويات، وتالياً فإن المشروعات السورية من مد شبكات سكك حديدية وتطوير المرافئ وفتح طرق دولية، والتي ستخدم هذه المبادرة ستكون لها الأولوية على أجندة أي قرار صيني بالانفتاح الاقتصادي على دمشق، ومن ثم يصار إلى الانتقال إلى المشروعات الأخرى. ونحن هنا، نتحدث عن المشروعات الكبرى، وليس عن المشروعات الصغيرة التي قد تجد دعماً صينياً بشكل ما.
الظروف غير مواتية
معظم التحليلات والقراءات السياسية، وبناء على ما يمكن استخلاصه من التجارب الاقتصادية الصينية في أفريقيا وآسيا، يذهب في اتجاه ترجيح كفة أن الظروف المواتية لدخول الصين على خط مشروع إعادة الإعمار في سوريا بمفهومه الواسع والكبير لم تتبلور بعد.
لكن ذلك لا يمنع من توفير الدعم الاقتصادي والفني لدمشق في بعض المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي يمكن أن تصنف بشكل أو بآخر في خانة مشروعات إعادة الإعمار، خاصة وأن بكين لا تزال تقدم دعماً فنياً واقتصادياً وإنسانياً لسوريا على مدار السنوات السابقة، وما سوف يحدث مستقبلاً هو توسيع دائرة هذا الدعم تدريجياً وصولاً إلى مرحلة تكون فيها الظروف السياسية والاقتصادية مناسبة لتتولى مهمة إعادة الإعمار في البلاد المنكوبة.