سلاح التجويع الأميركي: من العراق إلى سوريا فقطاع غزة
في جميع حروب التجويع التي قادتها ضد الشعوب والدول، كانت الإدارات الأميركية تحاول إقناع الرأي العام العالمي أنها بتلك العقوبات تستهدف الحكومات "الشريرة والخطرة على السلام الدولي".
لم تكتفِ الولايات المتحدة الأميركية عام 1991 بقصف القوات العراقية المنسحبة من الكويت وارتكابها تالياً مذبحة مشهورة ذهب ضحيتها آلاف العراقيين من عسكريين ومدنيين، إنما عملت على تشديد الحصار الاقتصادي الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على العراق في أعقاب احتلاله الكويت في آب/أغسطس 1990.
استمرت مفاعيل ذلك الحصار أكثر من عقدين من الزمن مخلّفة خسائر بشرية واقتصادية واجتماعية لا تزال بغداد عاجزة عن حصرها، رغم أن بعض التقديرات البحثية تتحدث عن تسبب الحصار بشكل مباشر أو غير مباشر بوفاة ما يزيد على مليون عراقي، جلهم من المدنيين، وخسارة اقتصادية تتجاوز 25 تريليون دولار أميركي.
سياسة التجويع الأميركية الهادفة إلى إنهاك الدول والشعوب، عادت لتمارس ضد سوريا بدءاً من العام 2011، وتوغلت تدريجياً في الأعوام التالية لتصل إلى فرض حصار شبه شامل في العام 2020 مع دخول قانون "قيصر" حيز التنفيذ منتصف ذلك العام.
ويتوقع أن يتعمّق ذلك الحصار بعدما أقرّت الإدارة الأميركية مؤخراً مشروع قانون "مكافحة التطبيع مع الأسد"، وهو بمنزلة نسخة محدثة عن قانون "قيصر" الذي أسهم بشكل أساسي في تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لأكثر من 16.5 مليون مواطن سوري، هم اليوم، بحسب المنظمات الأممية، بأمس الحاجة إلى الدعم والمساعدة لتأمين أبسط احتياجات البقاء على قيد الحياة.
وتتسع قائمة الدول التي طالتها العقوبات الاقتصادية الأميركية، والتي يعود أقدمها إلى عدة عقود سابقة، لتشمل دولاً كبرى كالصين وروسيا، ودولاً أخرى في المنطقة كالسودان واليمن والصومال وأفغانستان، إضافةً إلى دول أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن هذه العقوبات لم تصل إلى مرحلة الحصار الشامل، كما هي الحال مع كوبا والعراق وسوريا وغيرها.
لذلك، من السذاجة اعتبار ما يحدث في قطاع غزة من تجويع مجرد نتيجة لسياسة إسرائيلية هدفها تشكيل ضغط على فصائل المقاومة في مفاوضات وقف إطلاق النار أو لدفع ما تبقى من سكان شمال القطاع إلى المغادرة نحو مناطق أخرى تمهيداً لتحويله إلى شريط أمني لحماية مستوطنات الاحتلال في غلاف غزة.
الولايات المتحدة تبدو حاضرة في كل تفصيل من تفاصيل الحرب على القطاع. وتالياً، فإن سياسة الحصار والتجويع هي إحدى الممارسات الأميركية والإسرائيلية للضغط على الفلسطينيين في الميدان والمفاوضات والحياة.
أهداف التجويع
والسؤال: لماذا تتبع الإدارات الأميركية سياسة التجويع في مواجهة بعض الدول والشعوب؟ وماذا تريد واشنطن من غزة حتى تدخل سكانها في مطحنة الجوع؟
يمكن تمييز الإجابة عن السؤال الأول تبعاً لحالتين: الحالة الأولى تشمل حالات الحروب الأميركية العسكرية المباشرة التي تشكل فيها سياسة التجويع وسيلة أساسية لإضعاف الخصم وإنهاكه وتقليل مدة مقاومته ومحاولة تقليب السكان على حكوماتهم وخلخلة الوضع الاجتماعي، كما حصل بوضوح في العراق، ويحصل اليوم في سوريا، بغض النظر عن الوفيات البشرية التي يمكن أن تنجم عن مثل هذه السياسة المخالفة للقوانين والاتفاقيات الدولية المعروفة.
أما الحالة الثانية، فهي تتعلق بالمحاولات الأميركية الرامية إلى الضغط على الدول والشعوب بالحروب السياسية والاقتصادية بغية تغيير مواقفها وسياساتها، إذ تحضر العقوبات الاقتصادية كأحد أهم أشكال تلك الحروب، وهذا يتضح في العقوبات السياسية والاقتصادية الأميركية المفروضة على كوبا منذ سبعة عقود ونيف تقريباً، والعقوبات المفروضة كذلك على كل من إيران، وفنزويلا، وكوريا الشمالية، والسودان، وسوريا قبل العام 2011 وغيرها من الدول.
لكن في الحالتين هناك ما هو أبعد من مجرد محاولة هزيمة بعض الحكومات وإسقاطها، فالتجارب السابقة أثبتت أن الولايات المتحدة كانت تستهدف في عقوباتها بنية المجتمعات وتماسكها واستقرارها لخلختها وإضعافها، فالمشكلة في نظر الأميركيين ليست في مواقف الحكومات المعارضة لسياساتها والرافضة لهيمنتها فحسب، إنما في الشعوب نفسها أيضاً التي تناصر وتساند القيم الإنسانية والحضارية، وترفض التنازل عن حقوقها ومصادرة قرارها الوطني.
في الإجابة عن السؤال المتعلق بالهدف الأميركي من تجويع سكان غزة، لا بد بداية من القول إنَّ تحميل مسؤولية التجويع الحاصل في قطاع غزة للولايات المتحدة ليس نتيجة لموقف سياسي من واشنطن أو هو مجرد كلام اعتباطي، فالدولة التي تتمكن من القيام بإسقاط مساعدات غذائية بالمظلات في ذروة الهجوم الإسرائيلي على القطاع وتخطط لإنشاء ميناء مؤقت يمكنها أن تدخل مساعدات كافية عبر جميع المعابر البرية، ولا سيما إذا كانت هذه الدولة تملك من الأوراق ما يؤهلها للضغط بقوة على "تل أبيب" للسماح بدخول المساعدات الإنسانية ووقف عدوانها.
وبناء عليه، فإن هناك عدة أهداف أميركية من مناصرتها سياسة تجويع سكان القطاع، أهمها محاولة تقزيم طموحات الشعب الفلسطيني وتقليبه على فصائل المقاومة الرافضة لمشروع تصفية القضية الفلسطينية، وهو المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، والذي تبلورت ملامحه بوضوح مع سلطة أوسلو المسلوبة الصلاحيات والاستقلالية، وتأكدت أكثر مع المشروع الذي طرحته إدارة ترامب والمسمى بصفقة القرن، وصولاً إلى جهود التطبيع التي كانت قاب قوسين أو أدنى من النجاح بين الكيان الصهيوني وبين بعض الدول العربية.
النتيجة واحدة
في جميع حروب التجويع التي قادتها ضد الشعوب والدول، كانت الإدارات الأميركية تحاول إقناع الرأي العام العالمي أنها بتلك العقوبات تستهدف الحكومات "الشريرة والخطرة على السلام الدولي".
لذلك، كانت تعمل في خضم تلك الحروب على تنفيذ بعض الإجراءات "التضليلية" لإيهام الرأي العام بصدق نياتها، فمثلاً في حالة العراق أوجدت ما سمي بالنفط مقابل الغذاء، وفي سوريا أعلنت استثناء الغذاء والدواء من عقوبات "قيصر"، وفي غزة أسقطت طائراتها مساعدات بالمظلات فوق القطاع المحاصر والمدمر بأسلحة أميركية.
لكن عملياً هذ الإجراءات لم تكن فاعلة أو كافية لحماية السكان من الجوع؛ ففي ظل مشروع النفط مقابل الغذاء مات ما يقارب 600 ألف مدني عراقي، والغذاء والدواء كانا فعلياً الأكثر تأثراً بالعقوبات الأميركية على سوريا، وأسعارهما هي الأكثر تضخماً اليوم في الأسواق السورية، ومساعدات غزة التي يتم إسقاطها من الجو لا تسد نظرياً في كل مرة جوع أكثر من 4% من سكان شمال قطاع غزة في أفضل التوقعات، وليوم واحد فقط.
ومع ذلك، فإن حروب التجويع الأميركية فشلت عبر مسيرتها في تحقيق أهدافها رغم ما سببته من خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، فالعراقيون اليوم مثلاً ليسوا أكثر تأييداً للسياسات الأميركية من ذي قبل، كما كانت ترغب واشنطن، والسوريون لم يغيروا قناعتهم من الموقف والدور الأميركي السلبي في أزمتهم، وكوبا لم تسقط، ودعم سكان شمال غزة لفصائل المقاومة لم يتراجع قيد أنملة رغم وفيات الجوع والعطش.