ديمقراطية الفوضى
كلّ من يعارض مخططات الناتو يصنّف معادياً للديمقراطية وحقوق الإنسان ومؤيداً للأنظمة الشمولية القمعية.
عام 2007، خرجت الجماهير في جمهورية التشيك احتجاجاً على نصب شبكات رادار أميركية في أراضيها، وطالبت المعارضة بإجراء استفتاء شعبي حول هذا القرار. رفضت الحكومة إجراء الاستفتاء، متذرّعةً بأنّ شؤون الأمن القومي لا يمكن تركها للتصويت.
عام 2016، وقعت الحكومة الأردنية اتفاقية للغاز مع العدو الصهيوني، وعادت عام 2021 لتوقع اتفاقية عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية. وفي الحالتين، لم تعرض الاتفاقيات على مجلس النواب المنتخب المنوط به دستورياً إقرار هذه الاتفاقيات.
في عالم اليوم، تعيث الديمقراطية الليبرالية الفوضى في كل مكان تصل إليه، بصرف النظر عن طريقة وصولها، سواء كانت ديمقراطية عريقة مثل المملكة المتحدة، أو ديمقراطية جاءت فوق دبابات الناتو، كما هي الحال في العراق.
في لندن، سقط رئيس الوزراء بوريس جونسون تحت ضربات المؤسسة الحاكمة نفسها، وحزب المحافظين بالذات، الذي أطلق حملة استقالات من الحكومة لم تترك له مجالاً إلا للاستقالة.
المعارضة العمالية تطالب بانتخابات جديدة. أما المحافظون، فهم يسعون لاختيار زعيم جديد للحزب في شهر أيلول/سبتمبر ليحلّ محل جونسون في 10 داونينغ ستريت. تغيب مصالح الشعب البريطاني عن المعركة الديمقراطية، فحتى شهر أيلول/سبتمبر لن يكون ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة الأسعار، وخصوصاً الوقود، والأضرار البيئية للعودة إلى الفحم كمصدر للطاقة، على أجندة السياسيين البريطانيين. الموضوع الرئيس هو انتخاب زعيم جديد بالطريقة الديمقراطية القديمة نفسها.
في فرنسا التي أنهت انتخابات رئاسية وبرلمانية كرّست حالة من الفصام السياسي، يدور الصراع بين اليمين واليسار على المزيد من التبعية للسياسة الأميركية في الأزمة الأوكرانية، ولا يحتلّ ارتفاع سعر الغاز المنزلي بنسبة تفوق 20% منذ بداية العام، ولا هبوط سعر اليورو إلى أدنى مستوى له أمام الدولار تاريخياً، أولوية سياسية، رغم أن هذا الهبوط يعني زيادة الأسعار، وخصوصاً في ظل العقوبات على روسيا، والعلاقات المتوترة مع الصين، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم.
هل سيعاني الأوروبيون البرد؟ هذا ما أعلنته ألمانيا عندما طلبت من الشعب الألماني خفض درجة حرارة أجهزة التدفئة المنزلية توفيراً للطاقة، وهي التي تعاني أعلى موجة ارتفاع أسعار منذ 30 عاماً، لكنَّ المستشار أولاف شولتس يعتبر أنّ الأولوية تكمن في إنفاق مليارات الدولارات لإنشاء أكبر جيش في أوروبا، وحتى يحين ذلك الوقت، إنفاق مليارات إضافية على تسليح العصابات النازية في أوكرانيا.
لم نعد نسمع أصواتاً تعارض مشاريع الناتو في أوروبا، القائمة على تأجيج الصراعات وخلق الأزمات. كل من يعارض مخططات الناتو يصنّف معادياً للديمقراطية وحقوق الإنسان، ومؤيداً للأنظمة الشمولية القمعية المؤيدة للإرهاب، من روسيا إلى الصين إلى إيران إلى سوريا. هذا التصنيف غير معني بحقيقة بسيطة مفادها أنَّ جميع العمليات الإرهابية التي ضربت عواصم أوروبا ومدنها جاءت من دول حليفة للناتو أو من تنظيمات أنشأها الناتو نفسه.
ليس مهماً ما تعرفه. المهم قبولك بما يقدمه النظام، وتذكَّر أنَّ العقوبات يمكن أن تطالك حتى لو لم تعترض، فما عليك سوى المبالغة بالاحتفال بفوزك على لاعب أوكراني، كما فعل مصارع السومو المصري الذي سُحبت ميداليته الذهبية لأنه قفز وتشقلب محتفلاً بفوزه على اللاعب الأوكراني في المباراة النهائية. في النهاية، الأوروبيون مكرهون على العيش كأنهم أحرار.
كانت بلادنا من أكبر ضحايا الديمقراطية، منذ أن اجتاحت جحافل الناتو بغداد عام 2003، مروراً بطرابلس، ودمشق، وصنعاء، وبيروت. في العراق، لم تستطع الانتخابات حسم الصراع السياسي بين الكتل المتنافسة، فاستقال نواب التيار الصدري صاحب الأكثرية، لكنَّ ذلك لم يؤدِّ إلى الحسم، فما زال الإطار التنسيقي يفشل في مهمة اختيار رئيس للوزراء، والأحزاب الكردية تفشل في الاتفاق على رئيس للجمهورية، والمحكمة الاتحادية تمدد المهل الدستورية المنصوص عليها في طلاسم الديمقراطية التوافقية الكاريكاتورية. الشعب العراقي يئنّ تحت وطأة الفقر والجفاف وانعدام المياه الصالحة للشرب والغارات التركية، لكنَّ هذا كل لا يقع في أفق الاهتمام الديمقراطي.
في بيروت، لا تختلف الصورة كثيراً، فالتغييريون والثوار الجدد الذين حازوا بضعة مقاعد في مجلس النواب حاول البعض تسويقها على أنها النصر المبين؛ هؤلاء التغييريون ما لبثوا أن عادوا إلى قواعدهم داخل اللعبة السياسية الطائفية السائدة، بل إنهم اختاروا الجانب الموغل تاريخياً في الفساد والنهب والعمالة للعدو.
لم يسعفهم الاختباء خلف إصبع شعاراتهم الثورية طويلاً، وظهروا بالضبط في المكان الذي حدَّدته لهم الولايات المتحدة وفرنسا، من دون أن يتقدموا أو يتراجعوا، ولو لخطوة واحدة.
في الأردن، عصفت السلطة الحاكمة بالحياة السياسية الهشّة أصلاً، من خلال لجنة ملكية حدّثت المنظومة السياسية لتنتج أحزاباً وقوى سياسية تشبه السلطة نفسها، بل إنَّ أحد هذه الأحزاب يضمّ في عضويته ما يقارب 100 مسؤول حالي أو سابق، إضافةً إلى عدد من الضباط المتقاعدين. لم تكن هذه الهندسة كافية، بل صاحبتها تعديلات دستورية أفرغت الحياة السياسية من مضمونها، وركّزت كل السلطات بيد الملك.
كل هذه الطبقات السياسية الجديدة والثوار الجدد يرفعون شعارات تركز على "إنقاذ الفقراء ومحاسبة الأغنياء"؛ شعارات لا تتجاوز كونها كلاماً فارغاً من دون محتوى سياسي، وتصلح للاستهلاك الانتخابي ليس أكثر. في مجتمعاتنا التي تعيش على هامش النظام الرأسمالي، يقوم نمط الإنتاج على العلاقة بين السماسرة المحليين والمركز الرأسمالي.
لذلك، إن بقاء النظام على حاله لا يمكن إلا أن يحقق مصالح الأغنياء وشيوخ العشائر والزعماء السياسيين على حساب الفقراء. الدور المنوط بالثوار الجدد القادمين من داخل "صناديق طروادة" هو تحويل التبعية للاستعمار والمركز الرأسمالي إلى قضية شعبية يدافع عنها الفقراء، معتقدين أنها طريق الخلاص. لقد تحوَّل المعارضون التاريخيون إلى إصلاحيين يعترضون على فساد الرأسمالية، وليس على الرأسمالية نفسها.
علينا التوقف عن مجاملة الليبرالية بالادعاء أنّ ديمقراطيتها هي سبيل خلاصنا. نحن أمة ما زالت في مرحلة التحرر الوطني، والتناقض مع العدو يتقدَّم على أي تناقض آخر، وتحرير أرضنا من الاحتلال وإرادتنا السياسية والاقتصادية من الهيمنة لن يمر عبر صناديق الاقتراع الليبرالية.
برنامجنا هو المقاومة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، وخصمنا هو الاستعمار والمركز الرأسمالي بكلّ تجلياته. عندما نحقّق النصر، سيكون بإمكاننا اختيار النظام السياسي الَّذي يناسب احتياجات أمتنا وطموحات شعبنا، وليس النظام الّذي يفرضه علينا عدونا.