دمشق وملفات لا تنتظر التأجيل
لا شك أن لأصدقاء سوريا وحلفاءها دوراً في دعمها لمواجهة ما يجري شمالاً وشرقاً، لكن الدور الأكبر اليوم للسوريين أنفسهم في معالجات تحدّ من خسائر فادحة يدفعونها كل يوم.
من إعلان "الإدارة الذاتية" الكردية عن " عقد اجتماعي" شمال شرق سوريا إلى تكريس تركيا نفوذها على مساحة لا تقل عن 10 آلاف كيلو متر شمال حلب والرقة، فاحتجاجات لم تتوقف في السويداء منذ منتصف آب / أغسطس الماضي، ثمة مشهد مركب تواجهه دمشق بصعوبة.
صعوبة تأتي من ضعف ما تمتلك من أدوات للتحرك بعد أكثر من 11 عاماً من الحرب، وبطء مسار التطبيع العربي الذي جرى التعويل عليه للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، وفي المقابل ما تلاقيه تلك المشاريع السياسية من دعم ورعاية أميركية وإقليمية، وخصوصاً شرق الفرات وشمال سوريا.
وإذا كانت احتجاجات السويداء حديثة العهد نسبياً فإن أمراً واقعاً جرى فرضه شرق الفرات منذ تسعة أعوام، ويكاد لا يمر عام من دون أن تكرس "الإدارة الذاتية" معطى جديداً على الأرض يبعدها عن المركز، ابتعاداً ليس بمعنى اللامركزية الإدارية، هي مسار حوارات طويلة بين دمشق والقوى الكردية شرق الفرات بقيت من دون نتائج، واستنساخ لحالة فيدرالية واضحة شكلت جوهر "العقد الاجتماعي" الجديد الذي استعجل حزب الاتحاد الديمقراطي " بي واي دي" فرضه في ظل ترقب المنطقة بأسرها لما بعد الحرب على غزة، وبعد خروج قوات سوريا الديمقراطية " قسد" من مأزق الحرب مع القوى العشائرية الصيف الماضي، واستنادها إلى رفض أميركي - روسي وإيراني لخطط ومشاريع تركية لإطلاق حرب على الأرض ضد قوات سوريا الديمقراطية " قسد" وهي حرب حيوية لتركيا القلقة من نزعات انفصالية كردية شرق سوريا!
استعجال تلك القوى "العقد الاجتماعي" تصعب قراءته خارج مواصلة الضغط على دمشق في أي تسويات أو حوارات لا بد أنها قادمة لحسم مستقبل مساحة تصل إلى ثلث مساحة سوريا تقع بكاملها تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، وتضم ثروات سوريا النفطية والمائية ومعظم محاصيلها الزراعية.
وإن كانت دمشق لم تعلق رسمياً حتى اليوم على تلك الخطوة فإن القوى المعارضة في الخارج نبّهت إلى خطورة هذا الإجراء على مستقبل سوريا انطلاقاً من أنه " مشروع انفصالي مبطن"، رغم تضمن ديباجة إعلان "العقد الاجتماعي" إشارات إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية إلى جانب مواد إشكالية كالمادة الخامسة "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا هي جزء من جمهورية سوريا الديمقراطية" و " اللغات العربية والكردية والسريانية لغات رسمية" والمادة الثامنة التي أشارت إلى أن " للإدارة علماً خاصاً يرفع إلى جانب علم جمهورية سوريا الديمقراطية، ولها شعار وينظم ذلك بقانون" والمادة السابعة التي قالت "لكل مقاطعة الحق بتطوير وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع الشعوب والبلدان " فيما قالت المادة العشرون بأن " الثروات والموارد الطبيعية ملك للمجتمع".
وتضمن العقد الذي نشرته الإدارة الذاتية على معرفاتها الإعلامية مصطلحات من قبيل: الشعوب السورية، والتنوع البشري. وتضمن 132 مادة وديباجة وعرفت "العقد الاجتماعي" بأنه "مجموعة الأسس النظرية والعملية والقوانين والقواعد التنظيمية، التي توضع لتحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتبين حقوق وواجبات الأفراد والمسؤولين داخل المجتمع".
تفرض الإدارة الذاتية بإجرائها الجديد أمراً واقعاً يضاف إلى سلسلة طويلة من الإجراءات باتت واقعاً من تشكيل قوات "قسد" المكوّنة من عشرات آلاف المقاتلين بغطاء وتسليح وتدريب أميركي، وفرض منهاج تعليمي باللغة الكردية، ومصادرة مئات المدارس وإطلاق جامعات بمناهج بدائية باللغة الكردية، والسيطرة على ثروات البلاد النفطية، في وقت يئن الاقتصاد السوري تحت وطأة فاتورة استيراد نفطية تقدر ما بين 2.5 إلى 3 مليارات دولار سنوياً.. وغيرها الكثير الكثير.
وغير بعيد عن هذه المنطقة لا تتوقف تركيا عن تنفيذ خططها لإعادة مئات آلاف اللاجئين السوريين " طوعاً" إلى تجمعات سكانية تقوم ببنائها بتمويل خليجي شمال سوريا.
الرئيس رجب طيب إردوغان أعلن رسمياً خطه لترحيل طوعي لمليون شخص قبل الانتخابات المحلية المقررة الربيع المقبل، فيما تحدثت أرقام رسمية تركية عن ترحيل أكثر من 205 آلاف سوري منذ بداية عام 2023 وحتى شهر آب / أغسطس فيما سجلت المعابر الحدودية مع تركيا ترحيل 18 ألف سوري فقط خلال شهر كانون الأول / ديسمبر الماضي. وهي أرقام مرشحة للارتفاع مع إعلان أنقرة عن خطة ترحيل 200 ألف سوري خلال العام الميلادي الجديد.
خطط تجري بعيداً عن دمشق أيضاً، وتكمل فرض تغييرات ديموغرافية شمال حلب والرقة "مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام"، بحسب التسمية التركية لعملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية، بالتوازي مع سياسة تتريك منظمة أتت على مناهج التعليم وأسست لأكثر من ست جامعات هي فروع لجامعات تركية، إضافة إلى ربط عناصر الشرطة والمجالس المحلية بالمحافظات التركية الجنوبية، وتوسيع التبادل بالليرة التركية، فيما لا تزال أنقرة بعيدة عن تنفيذ مطلبي دمشق لتطبيع العلاقات وهما: الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف دعم المجموعات المسلحة فيها، بل ووضعت بدورها شروطاً لذلك الانسحاب كان آخرها ما أعلنه وزير الدفاع التركي يشار غولر الذي ربط مغادرة القوات التركية سوريا "بمجرد اتفاق الحكومة السورية مع المعارضة على دستور جديد وإجراء انتخابات" ما يعيد مسار التطبيع السوري- التركي الذي بدأ أمنياً نهاية عام 2022 بدعم ووساطة روسية، ودبلوماسياً في أيار / مايو 2023 بدعم روسي - إيراني إلى نقطة الصفر.
أخطر ما تواجهه دمشق هذا التراكم في ملفات ضاغطة يكبر ثمنها كل يوم وتتعلق بمستقبل البلاد السياسي وليس حاضرها فقط، وإذا كان شرق الفرات وشمال سوريا والاعتداءات الإسرائيلية التي زاد عددها على 70 غارة وقصف مدفعي وصاروخي أبرز تلك العناوين على الطاولة، فإن تحديات أخرى برزت خلال الأشهر الماضية لا يمكن القفز من فوقها من الاحتجاجات المتواصلة في السويداء للشهر الخامس على التوالي حتى تغيير الأردن قواعد الاشتباكات جنوباً مع شن طيرانه الحربي غارات في محافظتي درعا والسويداء تحت عنوان "محاربة تهريب المخدرات"..
لا شك أن لأصدقاء سوريا وحلفاءها دوراً في دعمها لمواجهة ما يجري شمالاً وشرقاً، لكن الدور الأكبر اليوم للسوريين أنفسهم في معالجات تحدّ من خسائر فادحة يدفعونها كل يوم.