خلفية الشائعات المدسوسة حول صفقة تبادل الأسرى
تكرار الحديث عن قرب إنجاز الصفقة بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" يشوبه كثير من الشائعات التي تهدف إلى التلاعب بمشاعر الأسرى وعائلاتهم.
تكاد لا تخلو وسائل الإعلام العربية من تسريبات دورية بشأن قرب التوصّل إلى إبرام صفقة تبادل للأسرى بين حركة "حماس" و"إسرائيل"، غير مستندة إلى تأكيدات رسمية من جانب المقاومة الفلسطينية، معتمدة في أخبارها على ما ينشره الإعلام الإسرائيلي بين الحين والآخر، تحقيقاً لمآرب وأغراض إسرائيلية خالصة، بعيدةً كلَّ البعد عن حقيقة ما يجري في الخفاء من تطورات ومجريات بشأن هذا الملف المعقَّد والحسّاس جداً بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية.
تكرار الحديث بين الحين والآخر عن قرب إنجاز صفقة تبادل للأسرى بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" يشوبه كثير من الشائعات. وهذه الشائعات هدفها التلاعب بمشاعر الأسرى وعائلاتهم. ووفق ما أعلنت حركة "حماس" مراراً، فإنها تُدير ملف التفاوض بكل حكمة واقتدار حتى تحقيق كلّ شروطها، وتكلّل الصفقة بحرية الأسرى والأسيرات الذين تطالب بهم. وهذا ما أكده عضو المكتب السياسي ومسؤول ملف الأسرى في حركة "حماس"، زاهر جبارين، في تصريح مقتضب، قال فيه إن "حماس" تنفي صحة الأنباء التي تحدّثت عن قرب إنجاز صفقة تبادل مع "إسرائيل".
ما حقيقة هذه التسريبات؟ وما الهدف منها؟ وهل فعلاً يوجد حراك في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى؟ وهل الدول التي توسَّطت حتى اللحظة أحدثت اختراقاً ما؟ ماذا عن الموقف الإسرائيلي بشأن الصفقة؟ وهل "إسرائيل" مستعدّة فعلاً لدفع الثمن الكبير الذي تطالب به حركة "حماس"؟ وإلى أي مدى يمكن أن تسير مفاوضات الصفقة؟
سأتحدّث بإسهاب في هذه القضية، واضعاً النقاطَ على الحروف، استناداً إلى حقائق ثابتة راسخة ومصادر عليمة مطّلعة على هذا الملف وتطوراته بين الحين والآخر. فهذا الملف فيه كثير من المَد والجَزْر. فمعروف أن حركة "حماس" استطاعت أَسر أربعة مستوطنين إسرائيليين، بينهم جنديان أُسرا خلال الحرب على قطاع غزة عام 2014، والاثنان الآخران دخلا قطاع غزة في ظروف غير واضحة خلال السنوات الماضية، بينما تعتقل "إسرائيل" نحو 4850 فلسطينياً في 23 سجناً إسرائيلياً، بينهم 41 أسيرة، و225 طفلاً، و540 معتقلاً إدارياً (من دون أيّ تهمة)، وفق مؤسسات متخصّصة بشؤون الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
كما أن المعروف، في مسار صفقات تبادل الأسرى، أن آخر صفقة تبادُل بين "حماس" و"إسرائيل" جرت عام 2011، حينما تمّ إبرام صفقة تبادُل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بـ1027 أسيراً وأسيرة، ضمنهم المئات من أصحاب الأحكام المؤبَّدة.
سِتُّ سنوات ونيف مضت على تطورات هذا الملف المهم لدى المقاومة الفلسطينية، و"إسرائيل" ما زالت تتعنَّت وترفض الاستجابة للوساطات العربية ووساطات الأطراف الدولية الأخرى، أو حتى خوض مفاوضات جدية لتدفع إزاءها ثمن الصفقة الذي تطالب به "حماس"، وتدير ظهرها انطلاقاً من رفض أوساط إسرائيلية كبيرة داخل "إسرائيل" قيامها بدفع ثمن باهظ تكراراً لما حدث في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011.
حاولت حركة "حماس"، وما زالت، تحريكَ هذا الملف انتصاراً لقضية الأسرى ووفاءً لتضحياتهم، وأملاً في إنجاز صفقة وطنية مشرّفة. ووضعت ثوابت واضحة من أجل إبرام صفقة تبادُل الأسرى، وتعمل بصمت كبير في هذا الملف لانتزاع الثمن الذي تريده من "إسرائيل"، بدءاً بالثوابت التي أعلنتها، كالإفراج عن الأسيرات الفلسطينيات والأطفال وكبار السن المرضى، والأسرى الذين أعادت "إسرائيل" اعتقالهم بعد تحريرهم في صفقة شاليط، وعددهم 64 أسيراً، مروراً بتمسُّكها بالرموز الوطنيين الكبار، كالقائد مروان البرغوثي وأحمد سعدات وحسن سلامة وعبد الله البرغوثي، وأسرى "نفق الحرية" الستة الذين تحرّروا عبر نفق سجن جلبوع، وغيرهم من قيادات الحركة الفلسطينية الأسيرة أصحاب الأحكام والمؤبَّدات العالية، وصولاً إلى استعدادها لإدراج قائمة الأسرى العرب من الجنسية الأردنية، والبالغ عددهم 21 أسيراً، بعد مطالبة البرلمان العربي حركة "حماس" إدراج هذه القضية ضمن أيّ صفقة تبادل مع "إسرائيل".
هذا معناه أن أيّ صفقة يمكن أن تُبْرَم ستكون صفقة تلبي رغبات الأمة العربية والشعب الفلسطيني، وستكون ذات بُعد سياسي تشمل كل المناطق الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة، وتشمل أيضاً الأسرى من الأراضي المحتلة عام 1948.
وساطات متعدّدة من دول عربية وأوروبية، كتركيا وألمانيا وسويسرا والنرويج وقطر ومصر، حاولت التوسط على مدى السنوات الماضية، من أجل إبرام صفقة تبادُل بين "حماس" و"إسرائيل". وما يجب تأكيده هنا أن الوساطات ليست مقتصرة على دول بعينها. فكما يوجد قنوات ظاهرية، يوجد أيضاً قنوات سرية غير معلَنة، كلها حاولت، أو تحاول، التوسّط لإنجاز هذا الملف. وكما جرى في صفقة شاليط، بحيث كانت الوساطة المصرية هي العنوان الظاهر والضامن لتنفيذها، لكنها لم تَخْلُ من وجود أطراف وقنوات سرية أخرى حاولت أن تؤدّي أدوراً فيها. وهنا، أتحدّث عن إعادة إحياء محاولة جديدة للقناة السرية للناشط السياسي الإسرائيلي غرشون باسكين، والتي نجحت في دفع عجلة إبرام صفقة جلعاد شاليط. ووفق مصادر عليمة خاصة، فإن هذه القناة حاولت، قبل فترة وجيزة، القيام بدور مماثل، لكنها لم تنجح بعدُ، واصطدمت بالموقف الإسرائيلي المتعنّت، والرافض خوضَ مفاوضات، أو دفع ثمن الصفقة.
ثمة فجوة كبيرة ما زالت في ملف صفقة التبادل بين "حماس" و"إسرائيل"، كما علمتُ من مصادر متخصّصة. وتعنُّت الاحتلال الإسرائيلي في التعاطي مع الوساطة المصرية هو سيد الموقف، نتيجة أسباب أبرزها أن الائتلاف الإسرائيلي اليميني المتطرّف، والذي يضم وزراء متطرفين في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، يرفض كل أشكال صفقات التبادل، ويعتبر أن ما جرى في صفقة جلعاد شاليط قبل عشر سنوات شكّل إهانة غير مسبوقة وكبيرة لـ"إسرائيل" منذ تأسيسها، ويرفض مبدأ تكرارها.
يُضاف إلى ذلك هشاشة حكومة الاحتلال الإسرائيلي، التي يرأسها نفتالي بينيت، الذي يحاول أن يظهر أنه متساهل في مباحثات الصفقة مع مصر تجنُّباً لتوتر العلاقة بإدارة بايدن، التي ترغب في الهدوء والاستقرار وترتيب أوراق المنطقة. لكنّ حقيقة الموقف الإسرائيلي تكمن في أن تشكيلة ائتلاف الاحتلال الحكومي تكبّله وتمنعه من اتخاذ أيّ قرارات مصيرية في هذا الشأن، ناهيك بنقاط الخلاف الجوهرية التي تتمثَّل بعدد الأسرى، ونوعية المراد الإفراج عنهم، والثمن الذي يجب أن تدفعه "إسرائيل" إزاء استعادة جنودها من قطاع غزة.
"إسرائيل" تحاول بين الحين والآخر إطلاق التسريبات الإعلامية عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي الغالب تكون موجَّهة إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية وعائلات جنود الاحتلال الأسرى من أجل تخفيف حدة الضغط على حكومة الاحتلال الإسرائيلي، لكنها أيضاً تعمل، على نحو أمني، في محاولة للتهرب من الثمن الذي تطالب به حركة "حماس". ومثل هذا السلوك مارسته في إبّان مفاوضات صفقة شاليط، إذ كانت تخوض المفاوضات غير المباشرة من جانب، وتمارس جهداً أمنياً موازياً في البحث، أو محاولة الوصول إلى أي معلومة عن جنديها من جانب آخر، وهي تكرّر السيناريو ذاته اليوم. لكن، وفق المعطيات الكثيرة وسرية هذا الملف التامة لدى قيادة المقاومة، فإنّ الفشل والعجز هما نتيجة حتمية للسلوك الإسرائيلي المراوغ والمخادع.
القضية التي باتت تشكّل مصدر قلق كبيراً لـ"إسرائيل"، هي أن كل قادة الحركة الأسيرة الذين أُفرِج عنهم في صفقة جلعاد شاليط، هم مَن يتصدّرون قيادة العمل الوطني، ومنهم من يترأّس قيادة حركة "حماس"، كالسيد يحيى السنوار وروحي مشتهى وغيرهما كثيرون. وجزء كبير منهم استعاد نشاطه المقاوم، وهم الذين يفاوضون "إسرائيل" بشأن صفقة أسرى جديدة. وهذا يشكل تحدّياً أمنياً كبيراً وخطيراً، وفق النظرة الإسرائيلية إلى تداعيات إبرام أيّ صفقات جديدة.
الوساطات في ملف صفقة تبادل الأسرى لم تتوقف، فكما كانت قبل معركة "سيف القدس"، تعزَّزت أضعافاً بعدها عبر الوسطاء بين حركة "حماس من جهة، و"إسرائيل" من جهة أخرى، إذ تتصدّر القاهرة، خلال هذه المرحلة، محاولات التوسّط من أجل إحداث اختراق في هذا الملف، تعبيراً عن رغبة أطراف دولية، وانطلاقاً من قناعة مفادها أن السير في عدة مسارات، كمسار تثبيت التهدئة وإعادة الاعمار، يمكن أن يهيّئ بيئة مؤاتية لإحراز تقدم في ملف صفقة تبادل الأسرى، ويشجع كل الأطراف على تهدئة طويلة الأمد تتكلّل برفع الحصار عن قطاع غزة، وتفكيك الأزمة الإنسانية.
في تقديري، وبعد قراءة عميقة لملف صفقة التبادل ولمعطيات كثيرة فيه، صحيح أن المفاوضات جارية، لكن لا شيء يَلُوح في أفق هذا الملف الذي ما زال يتحرّك ببطء، وأن أي تحرك في هذا الصدد مجدداً سيكون مرهوناً بحجم الضغط الموجَّه من مجتمع الكيان الإسرائيلي، وتأثير عائلات جنود الاحتلال في حكومة نفتالي بينيت، كي تستجيب لمطالب المقاومة الفلسطينية. لكن هذا الضغط لا يرتقي، حتى اللحظة، لأن تُقْدِم هذه الحكومة الهشّة والضعيفة على أن تتّخذ قراراً مصيرياً بشأن إبرام هذه الصفقة.
وأمام هذا الاستعراض المتسلسل، فإن الخشية باتت حاضرة في أذهان أوساط إسرائيلية كثيرة، وبدأت الخشية تتسلّل إلى عائلات جنود الاحتلال الإسرائيليين، مفادها أن يكون ثمنُ التعنُّت من جهة، وضعفِ موقف الحكومة الإسرائيلية بشأن اتخاذ قرارات جريئة من جهة أخرى، هو تكرارَ سيناريو مصير الجنود الأربعة، وتحويله إلى "رون أراد" جديد.