خطورة الشركات الأمنية الخاصة: "بلاك ووتر" و"فاغنر" نموذجاً
تهدف الدول التي تستعين بخبرات وخدمات شركات خاصة لتأدية مهام عسكرية إلى تخفيض النفقات والخسائر البشرية لجنودها، خاصة في ظل حروب العصابات التي تؤدي إلى سقوط كمّ من الضحايا-الجنود.
لمدة يوم كامل، عاش العالم يترقّب مصير "الانقلاب" الذي بدأته مجموعة "فاغنر" الروسية على قيادات الجيش الروسي، حيث طالب قائد المجموعة يفغيني بريغوجين بإقالة كل من وزير الدفاع وقائد الأركان الروسي، وإلا إنه سيزحف وقواته إلى موسكو لفعل ذلك بنفسه.
ولم يكد النهار يمرّ حتى أدّت وساطة بيلاروسية إلى إنهاء التوتر العسكري، والتوصل إلى تسوية تقضي برحيل بريغوجين وبعض قواته إلى بيلاروسيا، بينما ينضم من يريد من مرتزقته إلى القوات الروسية النظامية.
ولا شكّ أن المسألة تلك والتوتر الذي شهدته المدن الروسية، يطرح على بساط البحث مسألة الشركات الأمنية الخاصة، وأهمية دورها وخطورته في آنٍ واحد على الدول التي تستعين بها.
- ما هي الشركات الأمنية الخاصة؟
تنقسم الشركات الخاصة بحسب مهامها إلى قسمين: عسكرية، وأمنية. الأولى تقوم بمهام عسكرية شبيهة بمهام الجيوش النظامية، فتقوم بالمهام القتالية والاقتحام ودعم الجيوش وتحرير أو احتلال الأراضي إلخ، بينما تقوم الشركات الأمنية بحماية المنشآت والمقار وحقول النفط، وتستخدم في التدريب والاستخبارات والحروب السيبرانية وغيرها.
تهدف الدول التي تستعين بخبرات وخدمات شركات خاصة لتأدية مهام عسكرية إلى تخفيض النفقات والخسائر البشرية لجنودها، خاصة في ظل حروب العصابات التي تؤدي إلى سقوط كمّ من الضحايا-الجنود ما يثير انتقادات واعتراضات داخلية، ويؤثّر على قدرة الدولة على الاستمرار في حرب خارجية بعيدة عن حدودها.
هذا إضافة إلى تجنّب الدولة المساءلة القانونية لجنودها النظاميين الذين يكونون مجبرين على احترام القانون الدولي الإنساني وقواعد الحرب، فتوكل للشركات الخاصة ومرتزقتها القيام بالمهام القذرة.
- المسار التاريخي:
يستخدم الجيش الأميركي خدمات الشركات الخاصة للدعم واللوجستيات منذ زمن بعيد، ويعيد بعض الباحثين هذا الاستخدام إلى زمن الحرب الأهلية الأميركية. وكانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحوّل، حين كان استخدام المقاولين الخاصين من قبل الجيش الأميركي ميزة بارزة في المناطق الأمامية، وأصبح الممثل الفني للشركة المصنّعة إضافة مرحّب بها في المطارات الأمامية والمستودعات ومرافق الإصلاح.
وشجّع التوجيه الصادر عام 1955 جميع الوكالات الفيدرالية على استخدام الشركات الخاصة، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع الأميركية إلى استخدام الشركات الخاصة في حرب فيتنام، ما شكّل سابقة في هذا الإطار. في فيتنام، وصل استخدام المتعاقدين العسكريين الخاصين من قبل الأميركيين إلى مستوى غير مسبوق، حيث قاموا بأداء مجموعة واسعة من المهام العسكرية والأمنية المختلفة، وتمّ ونشرهم بأعداد أكبر داخل مسرح العمليات.
عام 1985، أصدر الجيش الأميركي "برنامج التعزيز المدني اللوجستي"، ما جعل المقاولين – رسمياً-جزءاً من إجمالي القوة العسكرية في عام 1990. على مدار التسعينيات، وسّع الجيش الأميركي بشكل كبير إطار الاستعانة بالمقاولين، الذين تولواّ تقديم دعم واسع النطاق لكل من عمليات درع الصحراء في العراق (1990) وعاصفة الصحراء (1991).
مع بيل كلينتون، باتت الاستعانة بمصادر خارجية أولوية بالنسبة للقوات المسلحة الأميركية، وذلك بعد أن قدّر التوفير المحتمل في الكلفة من الاستعانة بمصادر خارجية بما يتراوح بين 30% و40%.
- الشركات الأمنية في الشرق الأوسط:
بدأت ظاهرة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الشرق الأوسط بعد الاحتلال الأميركي للعراق، حيث استخدم الأميركيون الشركات الخاصة التي قامت بتجنيد مرتزقة للقتال ولحماية المقار العسكرية. وانتشرت تلك الشركات على نطاق واسع بالتزامن مع الحروب التي اندلعت بعد "الربيع العربي". وتعد شركتا "بلاك ووتر" الأميركية وشركة "فاغنر" الروسية، أشهر شركتين في هذا الإطار.
أ-"بلاك ووتر" الأميركية
اشتهرت "بلاك ووتر" وذاع صيتها بعدما تمّ تسريب وثائق وصور وفيديوهات توثّق تورّط مرتزقتها بارتكابات جسيمة لحقوق الإنسان في العراق، وتورّطها في قتل المدنيين العراقيين العزل.
تأسست الشركة عام 1997 على يد ضابط سابق في مشاة البحرية الأميركية (مارينز)، وحصلت على عقود أمنية واسعة النطاق من الحكومة الأميركية خاصة في العراق عام 2003.
قامت الشركة بتجنيد مرتزقة من مختلف أنحاء العالم، استخدمتهم للقتال لقاء مبالغ مالية طائلة. وتورّط مرتزقة الشركة بالعديد من المجازر في العراق، منها مجزرة "ساحة النسور" في بغداد حيث قتل مرتزقة "بلاك ووتر" 17 مدنياً عراقياً وجرحوا 20 آخرين. أُدين 4 مقاتلين منهم في الولايات المتحدة، لكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عفا عنهم لاحقاً في 22 كانون الأول/ديسمبر 2020، قبيل مغادرته البيت الأبيض.
وبسبب سجلها الحافل بالانتهاكات، تمّ تغيير اسمها مرتين xe services عام 2009، ثم academi عام 2011، واستمرّت في الحصول على عقود كبرى من المؤسسات الأميركية الحكومية، بالرغم من كل الضرر الذي تسبّب به المرتزقة لصورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
بـ -"فاغنر" الروسية:
اشتهرت "فاغنر" على نطاق واسع بعد اشتراكها في الحرب في سوريا، وليبيا، وفي الحرب الأوكرانية وغيرها. وقد شاركت "فاغنر" في الحرب ضد "داعش"، وجنّدت الكثير من المرتزقة من جميع أنحاء العالم للقتال ولحراسة المنشآت في سوريا بعد عام 2014، وقتل العديد من هؤلاء في غارات أميركية قرب حقول النفط التي كانت تحتلها "داعش" في سوريا.
وفرضت واشنطن عقوبات على رئيس مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، كما أدرجت الشركة نفسها على لائحة العقوبات الأميركية.
بالنتيجة، مع الانقلاب الذي حاولت "فاغنر" القيام به، ومع الفضائح التي قامت بها "بلاك ووتر" وأضرّت بسمعة الجيش الأميركي نفسه، بات السؤال المركزيّ هو مدى خطورة انتشار ظاهرة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على الدولة التي تستخدمها، خاصة إذا ما أعطيت أدوراً عسكرية كبرى من دون القدرة على محاسبتها ومساءلتها، كما حصل مع مرتزقة "فاغنر" و"بريغوجين" والتسوية التي سمحت لهم بالانتقال إلى بيلاروسيا من دون محاسبة، أو الإفلات من العقاب لمرتزقة "بلاك ووتر".