خطوة الحريري: إنهاء مرحلة للبدء بمرحلة مقبلة
خرج سعد الحريري في ضربة ذكاء، وبإخراجٍ احترافيّ، لأنه يدرك أنَّ الماضي انتهى، مراهناً على أن يكون له موقع في المرحلة المقبلة. خرج ليحضّر نفسه لتلك المرحلة.
-
يعرف سعد الحريري أنَّ معركة سوريا قلبت المعادلات العالميّة
مسرحية خروج سعد الحريري من الحياة السياسية اللبنانية هي تعبير دقيق عن المرحلة التي يمر بها لبنان، وربما المنطقة والعالم. هي مرحلة مفصلية بين مرحلتين؛ الأولى تأفل، والأخرى تتهيأ للحضور. والواقع الراهن هو حالة مستقطعة تمريراً للوقت، ريثما تستقرّ صورة المرحلة المقبلة على مشهدية ستكون ثمرة الصراعات الدولية والإقليمية المتفجّرة وبراكينها الثلاثة الأساسية: اليمن، وفلسطين، وأوكرانيا.
الحريري خرج باكياً، كما نقل عنه، كمهاجري القرن الماضي الذين حملت هجرتهم احتمال اللاعودة. وصف خروجه بأنه نهاية لحياته السياسية، ولبيت سياسي أدى دوراً مهماً في حياة البلد، لكن في الحقيقة، إنَّ خروجه ليس نهاية سياسية، كما اعتقد البعض. هو خروج من مرحلة "الطائف" التي تجاوزتها الأحداث والتطورات وارتدادات الزلزال السوري، كهزيمة لمشروع السيطرة الأميركية على المنطقة.
خرج سعد الحريري بما يمكن وصفه نعياً لمرحلة دخلت أكثر من موت سريري بدءاً من العام 2019، مع ما شهدته الساحة اللبنانية من تحركات، تلتها انهيارات التركيبة المتمحورة أساساً حول اقتصاد المصارف الليبرالي، إضافةً إلى ما نشهده حالياً من مظاهر تأزم اقتصادي واجتماعي وسياسي تشكّل ارتدادات متواصلة لزلزال نهاية مرحلة "الطائف" محلياً، انعكاساً للزلزال الإقليمي والدولي.
يدرك الحريري أنَّ حرب سوريا لم تُحسم لمصلحة المحور الّذي انتمى إليه. لقد شارك أساساً في تلك الحرب بصورة شبه مباشرة. ولذلك، يتلمَّس أكثر من سواه، ويدرك بتفاعله مع تطورات الميدان، مدى الربح والخسارة في تلك المعركة، وهو يعرف حجم هزيمة محوره فيه، في ظروف لم يعد ممكناً فيها الرجوع إلى الوراء. لذلك، آثر الخروج منها في مسرحيّة توحي بخروج مكتئب كأنْ لا عودة له أبداً.
يعرف سعد الحريري أنَّ معركة سوريا قلبت المعادلات العالميّة، وزادت تفاقم التراجع الأميركي - أي إضعاف مكمنه التاريخي: المملكة العربية السعودية - وصعود قوى دولية أخرى بدأت تذرّ قرنها في مصير ساحات العالم المختلفة، من آسيا إلى أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، أي التّحالف المتنامي بين روسيا والصين وإيران.
نظراً إلى موقعه التاريخي في الحضانة السعودية، لم يتقرَّب سعد الحريري من إيران، لكنَّه أقام صلات مع الصين، وانخرط في علاقة وطيدة وعميقة مع روسيا، أقامها والده الرئيس الراحل رفيق الحريري سابقاً مع الروس، واستمرَّ بها – الحريري الابن - بعد أن بدأ يلمس خسارة الرهان الأميركي السعودي في سوريا.
واهمٌ من يعتقد أنَّ لبنان سيستمرّ وفق الصّيغة التي رسا عليها بعد "الطائف"، بعد كل التطورات والانقلابات، وفي إثر تغيّر موازين القوى دولياً وإقليمياً. لبنان الذي كان ارتداداً لتطورات العالم والإقليم، منذ نشأته قبل قرن، ونضوج الصيغة التي أُريدت له في العام 1943، لن يكون حالة مختلفة عن السابق، وسيكون نتاجاً جديداً لمرحلة مقبلة غير متبلورة المعالم بعد. وبالتالي، واهمٌ من يعتقد أنَّ لبنان يحتمل إجراء انتخابات نيابية تعيد صياغة الماضي الَّذي تدمّر تحت سنابك التطورات السابقة والمستمرة في العالم والإقليم.
خرج سعد الحريري في ضربة ذكاء، وبإخراجٍ احترافيّ، لأنه يدرك أنَّ الماضي انتهى، مراهناً على أن يكون له موقع في المرحلة المقبلة. خرج ليحضّر نفسه لتلك المرحلة، وقطع أشواطاً في ترسيخ أسس التحضير لها مع الدول التي سيكون لها الدور الأكبر في رسم معالم العالم التاريخية المقبلة.
وإذا جرت الانتخابات النيابية، فلن تتمّ إعادة إنتاج الصيغة اللبنانية السابقة بها، ولا تكريس الطائف، بل ستكون مدخلاً للمرحلة المقبلة التي سيُسهِّل خروج الحريري منها عملية الولوج إليها، لأنّ صورة البرلمان اللبناني وتوازناته الحالية، بسعد الحريري وكتلته، هي غيرها من دونه، وستتغير التوازنات تغيراً فاعلاً، بما يتيح للصيغة الجديدة، التي ستأتي مختلّة التوازن لمصلحة التحالف المقابل، فتح الطريق للمرحلة المقبلة.
كما أنَّ سعد الحريري، ومنذ أن تعرَّض لرفض سعودي، وما رافق ذلك من رواية احتجازه، لا يريد تحمّل وزر المجابهة المرتقبة في الساحة اللبنانية؛ مجابهة حملتها ورقة البنود العشرة الخليجية بواسطة الموفد الكويتي للبنان، وهو الذي أعلن مراراً محاولاته المتكرّرة لتجنّبها لاعتبارات متعدّدة، منها عدم الخوض في صراع مذهبيّ، ومنها أيضاً عدم الرغبة في مجابهة من حاولوا مساعدته في تجاربه العصيبة، ومنها فترة احتجازه.