خضر عدنان و"حنيبعل" الإسرائيلي... مقاتلٌ ميت أفضلُ من مُقاتلٍ مأسور
إن إجراء "حنيبعل" يشكّل مُعضلة أخلاقية كبيرة تنتهك القيم الإنسانية السوية ومن الواضح أنه يخلق أيضاً ضرراً داخلياً لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي.
حَنبَعل بنْ حَملقار الشهير بـ "حنا بعل" أو "هانيبال" هو قائد عسكري قرطاجي ولد في عام 247 ق.م، ويُنسب إليه اختراع العديد من التكتيكات الحربية في المعارك وعبقرية التخطيط وأسطورية الموهبة الاستراتيجية في بلوغ أقصى حدود المستحيل. وبروتوكول "حنيبعل" هو الاسم الحركي لإجراء عسكري يُطبّقُه جيش الاحتلال الإسرائيلي يتعلّق بكيفية تصرّف أفراده ميدانياً في حال تعرُّضِ أحدهم للأسر من قبل قواتٍ مُعادية.
يسمح هذا التوجيه باستخدام الأسلحة الثقيلة والقوة التدميرية لمنع الآسرين من مغادرة موقع الحدث حتى لو شكّل ذلك خطراً على حياة الجندي المخطوف ذاته. كانت أول صياغة لهذا التوجيه في عام 1986 من قبل الجنرال أوري أور وجابي أشكنازي، وقائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال عمرام ليفين، ورئيس مجلس الأمن القومي الجنرال احتياط يعقوف عامي درور.
وضَعَ الإجراء قواعد العمل الفوري للمستوى العسكري الميداني حال حدوث اختطاف لجندي إسرائيلي، وقد بدأ تطبيقه في جنوب لبنان في سياق المواجهة مع حزب الله. تُظهِرُ التجربة أن عمليات الاختطاف في الماضي كانت ممكنة بسبب الميزة العددية "للعدو"، وكذلك بُطء أو تعثُّر التواصل لطلب المساعدة، وأحياناً بُعد المسافة التي يتعذّر معها الاستجابة السريعة لنداء الاستغاثة، وهي العناصر التي تخلِق العُزلة وتُسهّل مهمة الاختطاف.
تكمن أهمية إجراء "حنيبعل" في الاستجابة الفورية من قبل القوة العسكرية الإسرائيلية الموجودة في مكان الحدث، على افتراض أن أي تأخُرٍ في الرد يمكن أن يؤدي إلى الإخفاق في إحباط عملية الاختطاف. لذلك منَح الإجراء صلاحية اتخاذ قرار الرد إلى أي رتبة عسكرية توجد في مكان الحدث، أياً تكن درجتها، إذ يمكن اتخاذ القرار من قبل قائدٍ ليس برتبة ضابط.
في السنوات الثلاثين التي مرّت منذ إقراره، أثار الإجراء جدلاً عاماً داخل "إسرائيل" وخارجها، وعلى مدى السنوات التي مرّت منذ انسحاب "الجيش" الإسرائيلي من لبنان، ظل الإجراء سارياً في كل الساحات التي كان الاختطاف فيها ممكناً، إلى أن ألغى رئيس أركان جيش الاحتلال غادي أيزنكوت هذا التوجيه العسكري في حزيران/يونيو 2016.
وفي آذار/مارس 2018، أصدر مُراقب الدولة في "إسرائيل"، تقريراً ينتقد هذا الإجراء من عدة نواحٍ، أبرزها أنه لا يراعي مبدأين أساسيين في القانون الدولي، وهما استخدام القوة المتكافئة ضد التهديدات، والتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية.
خلال سنوات المواجهة مع حزب الله ثم مع المقاومة الفلسطينية لم يَثبُت أن الإجراء مَنَعَ، حتى عندما تم تطبيقه، عملية اختطافٍ واحدة وظلت فُرصة أن يُحبِطَ الإجراء عمليات الاختطاف ضئيلة للغاية، ومع ذلك، يبدو من سلوك جيش الاحتلال في العقد الماضي، أنه اتبع هذا الإجراء في كثيرٍ من الأحيان تحت ستارٍ من السرية.
أثير مؤخراً الجدل حول هذا الإجراء بعد ما نُشر من معلوماتٍ تفيد بمحاولة إحباط عملية اختطاف الجندي الإسرائيلي هادار غولدين خلال علمية "الجُرف الصامد" في آب/أغسطس 2014، أو معركة رفح المعروفة بـ "الجمعة السوداء"، حيث أدى القصف المدفعي ونيران القوات الجوية الإسرائيلية إلى مقتل غولدن وارتقاء عشرات الفلسطينيين شهداء في الحادث.
هذا إضافة إلى ما كشَفه تحقيقٌ إسرائيلي بُثَّ الشهر الماضي عبر القناة الـ 12 العبرية في برنامج "الحقيقة" عن عمليةٍ لوحدات القسام نُفّذت عام 2014 على بعد نحو 700 متر من مستوطنة سيدروت وأدت إلى مقتل 4 ضباط إسرائيليين، بعد أن تقمّصت وحدةٌ من القسام دور وحدة عسكرية إسرائيلية خاصة في الزيّ العسكري والتسلّح، وكانت مهمتها خطف جنود إسرائيليين لمبادلتهم لاحقاً بأسرى فلسطينيين.
تستند فلسفة إجراء "حنيبعل" على فكرة أن "أعداء إسرائيل" يسعون إلى اختطاف جنود إسرائيليين لاستخدامهم في صفقة تبادل أسرى يتم فيها إطلاق سراح العديد من "القتلة الفلسطينيين" الذين سيعودون ويقتلون العديد من "المدنيين" الإسرائيليين.
يرتبط هذا الفهم ارتباطاً وثيقاً بتاريخ دولة الاحتلال التي تميل تحت ضغط الرأي العام، للقبول حتى ولو بأثمان باهظة، إلى إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن جنودها الأسرى لدى المقاومة. ففي صفقة شاليط، على سبيل المثال، استسلمت "إسرائيل" للمعادلة التي أرستها حماس، وهي أن حياة إسرائيليٍ واحد في يد المقاومة تساوي حياة ألف فلسطيني في الأسر.
يعتَبِرُ المجتمع الإسرائيلي أن كل جندي هو بمثابة "ابن لنا جميعاً"، لذا فإن "إسرائيل" لا تصمد أمام ضغط الرأي العام الذي لا يقبل أن يتم أسر "أبنائه" كجُزء من ثمن الحرب الذي يجب أن تتحمّله "الدولة". وفكرة تقبّل إيذاء حياة الجندي المأسور تنطلق من موقف الرأي العام الإسرائيلي الذي يُفضّل الجندي القتيل على الجندي الأسير.
فمن يريد أو يستطيع في "إسرائيل" الوقوف مرةً أخرى ضد حشد الآلاف من المواطنين الإسرائيليين، الذين يجتمعون على الطُرقات مع لافتاتٍ تدعو إلى "إعادة الجنود إلى البيت"، ومن له الصبر على هؤلاء الآباء الذين سيبدأون على الفور في الطواف حول العواصم الأوروبية لحشد الدعم والتأثير على الخاطفين.
ومن لديه الرغبة أو الإرادة اللازمة لإجراء مفاوضات مع الوسطاء الألمان أو المصريين أو القطريين للحصول على معلومة ما عن المختَطَفين.
باختصار، قادتهم يقولون: أعطنا جُثماناً وسنكون راضين؛ فالحرب، الموت، الجنازة، والاعتراف الرسمي بالموت، هو ببساطة التسلسل الإسرائيلي المطلوب والمقبول كنتيجة للمعركة، فصورة الجندي الأسير هي تشويه تامّ لصورة "النصر" و "سردية النجاح الكامل"، وأسير الحرب هو الفشل الوطني التام.
لذلك سارعت "إسرائيل" إلى الإعلان عن أن جنديّيها شاؤول أرون وهادار غولدين اللذين قالت حركة حماس، بعد حرب الجرف الصامد في العام 2014، إنهما في حوزتها، هما في الواقع ماتا وأبلغت عائلتيهما بذلك. وكان الافتراض العملي الذي بنت عليه "إسرائيل" استراتيجيتها في هذه القضية هو أن "الجنود لم يعودوا أحياء"، وببساطة "الجثث ليست لأبنائنا"، وعندما يموت الإنسان لا يعود موجوداً، لهذا السبب لم يعد بإمكاننا إعادة "الأبناء" إلى بيوتهم"، كما في حالة الجندي شاليط. وعندما يستوعب الأهل والمجتمع الإسرائيلي برمّته أن "الأبناء" لم يعودوا على قيد الحياة، فإن لذلك تأثيراً مُهماً على سقف توقّعاتهم من "الدولة".
لكن "علم العقاقير العسكري"، وفق أحد المعلّقين الإسرائيليين، اخترع علاجاً يريح "إسرائيل" والرأي العام فيها من وجع الأسر وآثاره، أسماه "إجراء حنيبعل"، وهو "مُنتج شيطاني مُلوّث" يستدعي تدمير كل ما يتحرك في محيط حادثة الخطف لمنع الخاطفين من الهرب. فليُقتل 100 أو 1000 مواطن فلسطيني، ولتُهدم وتسوّى مئات منازل الفلسطينيين بالأرض، ولييتّم أطفالهم، ولتنزف نسائهم الحوامل، لكن المهم أن يموت الخاطفون، وربما المخطوفون أيضاً، "فثمن الاختطاف أغلى من ثمن الموت بكثير".
ليس مهماً عدد المدنيين الفلسطينيين المسموح بقتلهم ولا عدد المنازل التي يجب سحقها لمنع الاختطاف، فحياة الفلسطينيين على أي حال، "لا تساوي الكثير"، وبالتأكيد لا تساوي منازلهم الكثير، المهم ألّا نمنَحهم صورة النصر.
باختصار تسقط قيمة حياة الإنسان اليهودي حينما يشكّل أسرُه ورقة في يد العدو، لذلك يجوز قتله. وإذا كان هذا "العقل المريض" يُجيزُ قتل النفس اليهودية "المُختارة" ليحرِمَ عدوه صورة النصر، فمن "باب أولى" أنه يجيز قتل الفلسطينيين والعرب "الأغيار" ليحرمهم لذة الانتصار وشعور التفوّق عليه.
إنه إرثٌ مَرَضيٌّ متأصل في الوعي الإسرائيلي الأسطوري الذي ينطلق من قاعدة التفوّق العرقي والديني، يعزّزه ويغذّيه التفوّق العسكري والتقني، والتعامل الدولي المتراخي مع "إسرائيل" كدولة فوق القانون والتغطية على جرائمها. فالعداء تجاه الآخرين والعجرفة يدفعانها لدحض بطولة "الغير" وبالتالي مَنعِه من الحصول على صورة النصر والتفوّق.
هذا مذهبٌ يقلّل من القيمة العليا لمبدأ الحياة ويذهب إلى التعامل مع النفس الإنسانية وإرادتها إلى أقصى حدود الجنون والاستعلاء لتفويت الفرصة عليها وكسرها، فليُقتل الإسرائيلي والفلسطيني في آن واحد، وليمت الأسير المضرب عن الطعام، المهم أن تدحض "إسرائيل" بطولة الفلسطيني وتحرِمه لذة النصر.
فما الذي يمنع قادة "إسرائيل" اليوم من إنجاز صفقة تبادل أسرى مع المقاومة، وما الذي منَعها من الإفراج عن الشهيد المرحوم خضر عدنان وقد أصبح رُكاماً من جلد وعظم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويرتقي شهيداً.
إن إجراء "حنيبعل" يشكّل مُعضلة أخلاقية كبيرة تنتهك القيم الإنسانية السوية ومن الواضح أنه يخلق أيضاً ضرراً داخلياً لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي، فهو يقطع العلاقة بين جنوده المقاتلين حتى قبل خوض المعركة. ولا بد أنه يُحدث صدمة لدى الجندي ويضرب دوافعه وروحه المعنوية القتالية، فالجيش الذي من المفترض أنه يحمي جنوده قد يلجأ إلى قتلهم إذا اقتضت الضرورة الوطنية.
ولا شكّ بأن إجراء "حنيبعل" يُولّد العديد من العُصاة للنظام العسكري والسياسي ويؤثّر على درجة ثقة الجمهور الإسرائيلي في جيشه. إنه بالتأكيد ليس مبدأ أخلاقياً أو قيمياً، فوقوع "أي مُقاتل" في أي حرب أو مواجهة في الأسر يتطلّب، انطلاقاً من إدراك قيمة الحياة الإنسانية، القيامَ بكل شيء ممكن لتحريره وتخليصه من الأسر لا من الحياة.