حين تدخل المرجعية على خط الانتخابات العراقية
حين تبادر المرجعية الدينية إلى إصدار بيان جاء بصيغة ردّ على أسئلة موجهة من قبل بعض المواطنين بشأن الانتخابات، فهذا بالتأكيد لم يأتِ من فراغ، ولم يكن فعلاً عفوياً عابراً.
في أواخر العام 2005، وتحديداً قبل موعد إجراء الانتخابات البرلمانية الأولى في العراق، بعد إطاحة نظام صدام حسين (9 نيسان/أبريل 2003)، وبعد إقرار الدستور الدائم في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2005، تعرَّض المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي السيستاني للإساءة والتجاوز على منبر إحدى القنوات الإعلامية.
وبصرف النظر عما إذا كانت تلك الإساءة مخططاً لها أو أنها جاءت عفوية وارتجالية على لسان أحد ضيوف، فهي كانت كافية لإحداث حراك جماهيري مليوني، انعكس بصورة واضحة على حجم المشاركة في الانتخابات، ومن ثم على نتائجها ومخرجاتها.
ربما كانت تلك الواقعة أحد المصاديق الكثيرة على أن تدخّل المرجعية الدينية في النجف الأشرف أو إقحامها في قضية معينة كفيل بأن يغيّر الكثير من المسارات، ويبدّل الاتجاهات، ويصحّح المواقف أو يعدّلها. وأكثر من ذلك، يحول دون وقوع كوارث. وقد حصل ذلك، حين أقدم تنظيم "القاعدة" الإرهابي على تفجير مرقد الإمامين العسكريين (ع) في مدينة سامراء، في 22 شباط/فبراير 2006، إذ كادت تتفجر فتنة كبيرة تؤدي إلى حرب داخلية طاحنة لولا حكمة مرجعية النجف الأشرف في التعاطي مع ذلك الفعل الإجرامي الشنيع.
وفي صيف العام 2014، كان بإمكان تنظيم "داعش" الإرهابي الوصول إلى قلب العاصمة بغداد، وإلى النجف وكربلاء، بعدما سيطر على مدينة الموصل ومدن أخرى بين ليلة وضحاها، لولا فتوى الجهاد الكفائي للمرجع السيستاني، التي قلبت الموازين رأساً على عقب، وحولت التحديات والتهديدات إلى آفاق وفرص.
والآن، حين تبادر المرجعية الدينية إلى إصدار بيان جاء بصيغة ردّ على أسئلة موجهة من قبل بعض المواطنين بشأن الانتخابات، قبل 11 يوماً من موعد إجرائها، فهذا بالتأكيد لم يأتِ من فراغ، ولم يكن فعلاً عفوياً عابراً، إنما كان محسوباً بدقة من حيث التوقيت، ومن حيث التشخيص والتوجيه.
مثّل البيان الصادر عن مكتب المرجع السيد السيستاني في 29 أيلول/سبتمبر الماضي خارطة طريق لتصحيح المسارات الخاطئة، وإنتاج مخرجات انتخابية سليمة تسهم في إصلاح الواقع، وحلحلة العقد والمشاكل القائمة، وإبعاد البلاد عن الأنفاق المظلمة والغياهب المجهولة، إذ شددت المرجعية على المشاركة الواعية والمسؤولة في الانتخابات القادمة، معتبرة "أنها، وإن كانت لا تخلو من بعض النواقص، ولكنها تبقى الطريق الأسلم للعبور بالبلد إلى مستقبل يُرجى أن يكون أفضل مما مضى، وبها يتفادى خطر الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي".
ودعت المواطنين إلى استثمار فرصة الانتخابات، "لإحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة وإبعاد الأيادي الفاسدة وغير الكفوءة عن مفاصلها الرئيسية، وهو أمر ممكن إن تكاتف الواعون وشاركوا في التصويت بصورة فاعلة وأحسنوا الاختيار. وبخلاف ذلك، سوف تتكرر إخفاقات المجالس النيابية السابقة والحكومات المنبثقة منها".
وأوصت المواطنين بأهمية "التدقيق في سِيَر المرشحين في دوائرهم الانتخابية، وأن لا ينتخبوا منهم إلا الصالح النزيه، والحريص على سيادة العراق وأمنه وازدهاره، والمؤتمن على قيمه الأصيلة ومصالحه العليا، وحذار أن يمكّنوا أشخاصاً غير أكفاء أو متورطين بالفساد أو أطرافاً لا تؤمن بثوابت الشعب العراقي الكريم أو تعمل خارج إطار الدستور من شغل مقاعد مجلس النواب، لما في ذلك من مخاطر كبيرة على مستقبل البلد".
كذلك، وجهت المرجعية، في بيانها، "القائمين بأمر الانتخابات إلى أن يعملوا على إجرائها في أجواء مطمئنة بعيدة عن التأثيرات الجانبية للمال أو السلاح غير القانوني أو التدخلات الخارجية، وأن يراعوا نزاهتها ويحافظوا على أصوات الناخبين".
ومن المعلوم أنّ المرجعية دعت منذ وقت باكر إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة ضمن رؤيتها لتحقيق الإصلاحات الشاملة وتحسين الواقع الحياتي لمختلف فئات الشعب العراقي وشرائحه. وقد جاءت تلك الدعوات استجابة لمطالب الحركة الاحتجاجية الإصلاحية التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
وبما أنَّ هناك إحباطاً شديداً لدى فئات وشرائح اجتماعية واسعة من الأداء العام للسلطات التنفيذية والتشريعية، ويأساً من إمكانية الإصلاح والتصحيح، ناهيك بانعدام الثقة بالطبقة السياسية المتصدية لمقاليد الأمور، رأت المرجعية ضرورة استثمار الفرصة الأخيرة، المتمثلة بانتخابات العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لترسم خارطة طريق مناسبة للناخبين والمرشحين والمعنيين بإدارة العملية الانتخابية.
وتتمثل عناوين الرسائل العامة والأساسية التي وجهتها المرجعية بالمشاركة الواعية والمسؤولة وحسن الاختيار، من خلال انتخاب النزيهين والكفوئين والمخلصين، وعدم منح الثقة للفاسدين، فضلاً عن نزاهة الانتخابات وإبعادها عن أجندات التلاعب والتزوير، كما حدث في المرات السابقة.
هذه الرسائل البليغة والعميقة التي انطوى عليها بيان مرجعية النجف الأشرف، لقيت صدى وتفاعلاً واسعاً من قبل النخب السياسية والشرائح المجتمعية المختلفة. ولا شكَّ في أنها ستدفع الكثير من المترددين في المشاركة، ومن اتخذوا قراراً بمقاطعتها، ممن يصنّفون ضمن المساحة الرمادية، إلى تلبية توجيهات المرجعية، في إطار المشاركة والتدقيق في الانتخاب، كما أنها ستجعل الجهات المعنية، سواء مفوضية الانتخابات أو المؤسسات الحكومية الأخرى، أمام مسؤولية مضاعفة من أجل إنجاح العملية الانتخابية وتجنيبها المنزلقات الخطيرة.
وفي ما بعد، فإنَّ ما أعطى زخماً وصدى أكبر لبيان المرجع السيستاني، هو فتوى المرجع آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري، والتي شدَّد فيها على جملة نقاط، من بينها:
"أولاً: ضرورة المشاركة الفعّالة والواسعة في الانتخابات، بالذهاب إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بالرأي وعدم التهاون في ذلك.
ثانياً: يجب إيصال المؤمنين الأكفّاء إلى البرلمان، ممّن يهدفون إلى خدمة بلادهم وشعبهم بصدق وأمانة، ويُعرفون بسيرتهم الحسنة بين الناس، والبعيدين عن تأثيرات المستكبرين.
ثالثاً: يحرم إعطاء الصوت والتأييد لكلّ من يدعو إلى بقاء قوّات الاحتلال على أرض العراق، أو لا يدعو إلى إخراجها.
رابعاً: يحرم انتخاب من ينصب العداء لقوى الحشد الشعبي، حُماة الوطن والقيم، أو من يستتر خلف دعاوى دمج الحشد مع القوّات الأمنيّة لتضعيفه أو تمييعه، سعياً وراء إرضاء الأجانب الأعداء والفاسدين الذين يعدّون العدّة للمكر بالعراق ومحاربة قيمه ومجاهديه وأهله الصالحين".
لم يختلف ما صدر عن السيد السيستاني عما صدر عن الحائري من حيث الجوهر والمضمون، بل إنَّ من يدقق بإمعان يجد أنَّ المرجعَين ركّزا على المساحات والعناوين ذاتها، مع فارق بسيط، تمثل بأنَّ الأخير تناول بعض الجوانب المتعلقة بالوجود الأجنبي والحشد الشعبي بصورة واضحة وجلية، حتى فهم البعض ذلك بأنه موجّه في جانب منه إلى فئة معينة، كأن تكون أتباع التيار الصدري، باعتبار أن السيد الحائري يعدّ مرجعهم في التقليد، وفق ما أوصى به الشهيد آية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر قبل استشهاده في 19 شباط/فبراير 1999.
قد لا تسير الأمور على ما يرام من كل الجوانب، سواء تعلق ذلك بآليات العملية الانتخابية حصراً أو بما سوف يترتب عليها من استحقاقات سياسية لاحقة، من قبيل طبيعة القوى التي ستشغل مقاعد البرلمان وحجمها وتأثيرها، أو تلك التي ستساهم في تشكيل الحكومة الجديدة، بيد أنَّ معطيات غير قليلة، وآخرها وأهمها دخول المرجعية الدينية على الخط، تؤشر إلى أنَّ اختلافات ومتغيرات ملموسة ستطرأ على المشهد العام في العراق، ولا سيما أن أولويات غير قليلة وغير هامشية ستفرض نفسها في مرحلة ما بعد الانتخابات، ولن يكون ممكناً إهمالها ووضعها على الرف لفترة طويلة، كما حصل سابقاً.