حضور الصين يتزايد في الكاريبي.. ما هي ركائزه؟
الاهتمام الصيني بمنطقة الكاريبي الذي بدأ مطلع عام 2000 يرتبط بعدد من العوامل الرئيسية، ما هي؟
-
الصين تتمدّد في الحديقة الخلفية لواشنطن وتقاسمها النفوذ في الكاريبي
بهدوء وروية شديدين، تواصل الصين توسيع دائرة حضورها الناعم للحديقة الخلفية للولايات المتحدة، تحديداً في منطقة بحر الكاريبي، وتعمل بشكل دؤوب على ترسيخ وجودها الجيواستراتيجي والاقتصادي وتثبيته هناك، عبر تكريس حضورها كقوة عظمى أخرى منافسة لأميركا.
فعلى أرض الواقع، يشهد حضورها في الكاريبي، تمدُّداً ملحوظاً، يبدأ من جزر البهاما في الجزء الشمالي من أرخبيل الدول الجزرية، ليضم جزر الأنتيل الكبرى والصغرى جنوباً، وصولاً إلى غيانا على الكتف الشمالية الشرقية لأميركا الجنوبية.
وبعكس الاستراتيجية التي اعتمدها الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، لم تسع بكين إلى إقامة تحالفات وقواعد عسكرية في منطقة الكاريبي، على الأقل حتى الآن، لكنها برعت في استخدام ما أصبح متعارفاً عليه في أوساط الخبراء والساسة الغربيين "فن الحكم الاقتصادي"، وهو سلاح أشدّ فعالية، وأكثر استدامة من معادلات الهيمنة العسكرية وسياسات الحمايات الأمنية (المعتمدة من قبل الدول الاستعمارية للهيمنة على البلدان الصغيرة والضعيفة).
ما هي ركائز فن الحكم الاقتصادي للصين في منطقة الكاريبي؟
في الواقع، كان فن الحكم الاقتصادي الصيني في منطقة البحر الكاريبي فعالاً للغاية، إذ تُعدّ بكين عموماً شريكاً جيداً لدول المنطقة. وكما هي الحال في أفريقيا وأميركا اللاتينية، قادت الشركات الصينية الكبيرة المملوكة للدولة (المدعومة من بنوك التنمية الحكومية) والباحثة عن الموارد الطبيعية، ومشاريع البناء والأسواق الجديدة، مسيرة الحضور الصيني في الكاريبي. وتبعاً لذلك، استطاعت بكين الانتقال بتجارتها مع حكوماتها من أرقام متدنية تكاد لا تذكر في العام 1990، لتصبح واحدة من أكبر الشركاء التجاريين للعديد من بلدان المنطقة، بما في ذلك بربادوس، وكوبا وجمهورية الدومينيكان وغيانا وسورينام وترينيداد وتوباغو.
من هنا، بلغت الصادرات الصينية إلى هذه المجموعة من البلدان في عام 2021 أكثر من 9 مليارات دولار، وفقاً لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي. فيما لم تتجاوز الصادرات الكاريبية إلى الصين، المليار دولار على ذمة صندوق النقد.
علاوة على ذلك، ساعدت سياسة الإقراض التي تعتمدها بكين في توثيق علاقاتها مع دول الكاريبي وتعميقها، خصوصاً أنّ الإجراءات المالية لبنوك التنمية الصينية لا تتطلب وقتاً طويلاً، مقارنة بمؤسسات الإقراض المتعددة الأطراف التي يهيمن عليها الغرب. كما أنها، في كثير من الأحيان، على استعداد لتوفير الائتمان بأسعار فائدة أقل من السوق، لذلك، برزت الصين كمقرض رئيسي لجامايكا (2.1 مليار دولار) وسورينام (773 مليون دولار) وجمهورية الدومينيكان (600 مليون دولار) استناداً إلى موقع خدمة أبحاث الكونغرس الأميركي.
لماذا ركزت الصين على منطقة البحر الكاريبي؟
في الحقيقة، تضم منطقة البحر الكاريبي 16 دولة مستقلة. على الرغم من أن عدداً من هذه الدول صغيرة، فإنها تتمتع بأصوات في الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية والمنتديات الدولية الأخرى. وهذا يجعل منطقة الكاريبي مهمة للصين التي تتطلع إلى إنشاء نظامها العالمي الخاص بها بعيداً من التدخلات والقوة العسكرية، بحسب قادتها.
لذلك، يرتبط الاهتمام الصيني بمنطقة الكاريبي الذي كان بدأ مطلع عام 2000 بعدد من العوامل الرئيسية التي يمكن إيجازها بالآتي:
أولاً: ملاءمة الكاريبي لاستراتيجية التنمية الشاملة الأكبر التي تتبعها بكين للحفاظ على نموها الاقتصادي، والانتقال من اقتصاد قائم على الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة. وتدخل في هذا الإطار حاجة بكين للوصول إلى الموارد الطبيعية اللازمة لصناعتها. لذلك، اتجهت بكين إلى هذه المنطقة؛ كونها توفر لها موارد استراتيجية مهمة، بما في ذلك النفط والغاز والبوكسيت والنيكل والأخشاب. كما يمكن أن تكون منطقة الكاريبي أيضاً مصدراً محتملاً للمعادن الأرضية النادرة، والتي تعدّ أساسية للمكوّنات المستخدمة في التقنيات الجديدة والناشئة، بما في ذلك الطاقة المتجددة.
على الضفة الأخرى، تعوّل الصين على هذه المنطقة كسوق مهمة لسلعها، إذ توجد أكبر الأسواق في كوبا وجمهورية الدومينيكان وجامايكا. في الوقت نفسه، تساهم مشاريع البنية التحتية الكبرى التي تنفذها شركات البناء في المنطقة فرص عمل للعمال الصينيين. ليس هذا فحسب، لا يغيب عن حسابات بكين المستقبلية الممرات البحرية، إذ تعد منطقة البحر الكاريبي ذات أهمية استراتيجية لسلاسل التوريد العالمية، إذ يلعب موقعها الجغرافي دوراً مهماً في تسهيل الحركة التجارية للسفن الصينية، التي تعبر قناة بنما، في اتجاه سواحل المحيط الأطلسي في كل من أميركا الشمالية والجنوبية.
أمّا بالنسبة إلى تطلعات الصين العسكرية، وعلى الرغم من أنها لم تنشئ أي قواعد عسكرية في المنطقة، فإن عدداً من مشاريع البنية التحتية التي تنفذها التكتلات المملوكة للدولة الصينية، مثل الموانئ والمطارات، يمكن تحويلها بسرعة ومن دون أي عوائق إلى استخدام عسكري.
ثانياً: أعطى سعي بكين الدائم لاستعادة تايوان، منطقة البحر الكاريبي ثقلاً دبلوماسياً وازناً، دفع الصين إلى استغلاله لخوض معاركها المتعلقة بقضية تايبيه، في المحافل الدولية. فمن بين الدول الـ14 التي تعترف دبلوماسياً بتايوان وتحافظ على علاقات رسمية معها، توجد 5 منها في منطقة الكاريبي.
وانطلاقاً من هذه النقطة، ومنذ عام 2017، استطاعت بكين هندسة تحوّلات مثيرة على مستوى الاعتراف الدبلوماسي بتايوان، من خلال استخدامها فن الحكم الاقتصادي الذي بات جزءاً أساسياً من سياسة الصين الخارجية لعزل هذا البلد. أمّا النتائج التي حققتها فكانت مشهودة، إذ أثّرت القروض والاستثمارات الصينية الرخيصة والفرص التجارية المعززة في قرارات هذه الحكومات أعلاه، بتبني مبدأ الصين الواحدة.
وبناءً على ذلك، أعلنت جمهورية الدومينيكان في العام 2018، قطع صلاتها بتايبيه، وأقامت في المقابل، علاقات دبلوماسية مع الصين. بعدها، كرّت السبحة، وحذّرت العديد من حكومات دول أميركا الوسطى، لا سيما بنما والسلفادور ونيكاراغوا، (حذو الدومينيكان) وقطعت جميعها علاقتها الدبلوماسية بتايوان.
ثالثاً: توفر منطقة البحر الكاريبي ساحة ملائمة للصين؛ لاجتذاب مزيد من الأصدقاء والحلفاء الجدد، في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، وذلك رداً على الخطوات الأميركية المتمثلة بتشكل حلف "ناتو" آسيوي في منطقة المحيط الهادئ، ودعمها القوي لتايوان.
من هنا، بقيت الصين ثابتة في دعمها لنظام الرئيس نيكولاس مادورو، واشترت الخام الفنزويلي على الرغم من العقوبات الاقتصادية الأميركية. ودعمت كذلك، وبدرجة محسوبة النظام في كوبا. كما قدمت الصين نفسها أيضاً كنموذج تنموي بديلاً من الطبيعة الفوضوية المفترضة للسياسات الديمقراطية في الولايات المتحدة.
رابعاً: سعي دول الكاريبي للاستفادة من التنافس القائم بين الولايات المتحدة والصين. فعلى الرغم من أن معظم دول منطقة البحر الكاريبي تعدّ صديقة للولايات المتحدة، لكن بعض البلدان يستغل التنافس بين البلدين، لتحصيل أكبر قدر من الفوائد من أيّ من القوتين أو كليهما، خصوصاً أنّ لبلدان منطقة الكاريبي أيضاً مصالحها الوطنية الخاصة، وهي تتعلق في معظم الحالات بجهودها لتطوير البنية التحتية المتعلقة بتغير المناخ.
ماذا عن الموقف الأميركي من التوسع الصيني في الكاريبي؟
توازياً مع توسع الحضور الصيني في الكاريبي، تسعى إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى إيلاء مزيد من الاهتمام بهذه المنطقة، ولهذه الغاية كان التقى عدداً من نظرائه في قمة لوس أنجلوس للأميركيتين لعام 2022.
لكن المفارقة، أنّ الولايات المتحدة، لا تزال تفتقر إلى استراتيجية واضحة وشاملة للتعامل مع دور الصين المتزايد في الكاريبي. فبعكس الصين، لا تستطيع أميركا إجبار شركاتها وبنوكها على تحقيق أهداف سياستها الخارجية.
وما زاد الطين بلة بالنسبة إلى واشنطن، هو طبيعة التحديات التي تواجهها في تلك المنطقة وأبرزها: الفوضى في هايتي، إدارة مخاطر تغير المناخ، والنظام المعادي لها في كوبا، إضافة إلى عجزها عن التعامل مع عمليات تهريب المخدرات العنيفة (تديرها مافيات أميركية ــ كاريبية) التي أصبحت تشكل خطراً كبيراً وداهماً على الداخل الأميركي.
في المحصّلة، من المرجح أن تزداد الجهود الصينية في المنطقة بالنظر إلى استمرار الرئيس شي جين بينغ في تنفيذ أجندته السياسية الخارجية الطموحة، مع بداية فترة ولايته الثالثة. من هنا، يمكن القول إن دول الكاريبي أصبحت قمرة قيادة جيوسياسية تتقاسمها كل من الولايات المتحدة والصين.