ذراع "إسرائيل" الأمنية .. عن حرب الجاسوسية وسرّ "الموساد"
هل كان التجسّس هو الإنجاز الأعظم في تاريخ الصهيونية؟ وما هي حقيقته اليوم؟
قبل شهر ونيف، كشف الصحافي الإسرائيلي، رفيف دروكر، العامل في "القناة الـ13"، عن فضيحة أخلاقية كبيرة لرئيس جهاز الموساد السابق يوسي كوهين، وعلاقته مع مضيفة طيران إسرائيلية، وملاحقتها من بلد إلى آخر مثل المراهقين الصغار، والتسبّب في طلاقها من زوجها الذي يعمل في صندوق استثماري كبير في "إسرائيل"، حتى إنه تسبّب في فصله من عمله.
لم يمض وقت طويل على هدوء عاصفة يوسي كوهين، رئيس الجهاز السابق، حتى بدأت الأخبار الصحافية تتوالى عن استقالات في جهاز الموساد، وصلت إلى استقالة نائب رئيس الجهاز الحالي، وأربعة من رؤساء الأقسام المهمة فيه، لأسباب، كما تقول الصحافة، تتعلق بعدم قدرتهم على التحرك في دول أوروبية بسبب عيّنات الـ "دي أن إيه" التي أُخذت من لُعابهم، في ظل فحوصات كورونا للمسافرين في الطائرات.
ليس هذا فحسب، بل تفجّرت خلال الأيام الأخيرة، ولا تزال، فضيحة تجسّس الشرطة الإسرائيلية على وزراء ومديرين عامين لوزارات ورجال أعمال كبار ورؤساء بلديات وصحافيين، وحتى على ابن نتنياهو، والقائمة طويلة... منها ما كُشف، ومنها ما لم يُكشف بعد، وذلك بواسطة منظومة بيغاسوس التي يستخدمها الموساد والشاباك للتجسّس، أو تباع للأنظمة الرجعية والقمعية ولحكامهم، للتجسّس على شعوبهم وخصومهم السياسيين. فهل كان التجسّس هو الإنجاز الأعظم في تاريخ الصهيونية؟ وما هي حقيقته اليوم؟
ما هو سر "قوة" جهاز الموساد؟
شبكات التجسّس الإسرائيلية التي ضُبطت في لبنان وسوريا، ونشرت صحيفة "الأخبار" اللبنانية بعض التفاصيل عنها، هي نموذج واحد فقط عمّا يقيمه الموساد من شبكات متشعّبة في أنحاء العالم، استخدمت في ذلك غطاءات مختلفة، مثل مؤسسات حقوق إنسان وإغاثة وتنمية، بهدف جمع المعلومات، وتبيّن من التحقيق أن بعض من عملوا ضمن هذه الشبكات هم أناس لم يعلموا حقيقة مشغّليهم. بغض النظر عن التفاصيل التي لم تكشف بعد، لم يعد هناك بد من فتح ملف الموساد ونشاطه الواسع في العالم وفي الدول العربية بشكل خاص، والكشف عن سر "قوته" وضعفه.
كان خطاب نيكيتا خروتشوف السرّي في اجتماع المكتب السياسي في الـ24 من شباط/فبراير 1956، والذي انتقد فيه سياسة سلفه ستالين، أول مناسبة يتعرّف فيها جهاز الأمن الأميركي، "سي آي إيه"، على الموساد. آنذاك، جُنّت أميركا، وأرادت أن تحصل على نص خطاب خروتشوف، وخلال فترة قصيرة استطاع طالب روسي، يهودي صهيوني، الحصول على نص الخطاب، ونقله إلى مشغّليه في الموساد، ومن هناك إلى الـ"سي آي إيه" في واشنطن. حادثة التجسّس هذه جعلت أميركا تقيّم القدرات التجسّسية لـ"إسرائيل" بشكل كبير، وأصبح الموساد هو وسيلتها الأكثر نجاعة ضد الاتحاد السوفياتي، وضدّ روسيا الاتحادية حتى يومنا هذا.
وخلال العقود السابقة، نجح الموساد في عشرات عمليات الاغتيال لعلماء وناشطين سياسيين عرب وغير عرب في أنحاء العالم، خدمة مباشرة لـ"إسرائيل"، مثل النجاح في اغتيال محمود المبحوح يوم 19/1/2010 في دبي، باستخدام جوازات سفر مزوّرة، وقبل ذلك تمّ اغتيال كمال عدوان ورفاقه، كما اغتيال أبو جهاد وأبو إياد، وحتى دسّ السم في طعام الرئيس الشهيد أبو عمار.
كما قام الموساد بعمليات اغتيال خدمة لطرف آخر مقابل خدمة يقدّمها هذا الآخر لـ"إسرائيل"، مثال على ذلك اغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة.
ومن نجاحاته أيضاً، اعتقال جنود وضباط نازيين، ولو بعد سبعين عاماً وأكثر من تخفّيهم في أماكن بعيدة عن ألمانيا. وكل هذه نماذج فقط من مسلسل طويل.
في المقابل، فشل الموساد في مصر عام 1954 وما سُمّي آنذاك "فضيحة لافون"، ولاحقاً "فضيحة عمود النور 1970". وفي العام 1973 فشلت محاولة اغتيال القيادي الفلسطيني حسن سلامة في النرويج، فقُتِل، بدلاً منه، شاب مغربي يعمل نادلاً في مطعم، وأدّى الفشل إلى اعتقال ضابطة الموساد سيلفيا رفائيل.
في نيسان/أبريل عام 1991 ألقت السلطات القبرصية القبض على أربعة من عملاء الموساد (رجلين وامرأتين) في أثناء محاولتهم زرع أجهزة تنصّت على السفارة الإيرانية هناك. وبعد تقديمهم إلى المحاكمة، أطلق سراحهم بعد دفع غرامات مالية وعادوا إلى "إسرائيل".
يوم 25/9/1997، جرت محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن على أيدي عشرة من عناصر الموساد، بقرار من رئيس الحكومة آنذاك بنيامين نتنياهو. دخل ضباط الموساد الأردن بجوازات سفر كندية مزوّرة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1998 أوقفت الشرطة القبرصية الإسرائيليين عودي هارغوف (27 عاماً) وإيغال دماري (49 عاماً) في منطقة زيغي الساحلية، بسبب قيامهما بالتجسّس على القوات المسلحة القبرصية اليونانية. وفي الـ 23 من آذار/ مارس 2004 فشلت عملية تزوير جوازات سفر في نيوزيلاندا.
يُذكر أن كل عناصر الموساد الذين قُبض عليهم في الخارج، بعد فشل عملياتهم، تمَّ الإفراج عنهم بعد أيام أو أشهر قليلة، ما عدا بولارد.
لقد أشار الموقع الإسرائيلي، "قضايا مركزية"، آنذاك، إلى أن استخدام جوازات سفر مزوّرة لدول أوروبية، مثل إيرلندا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا "قد يقود (إسرائيل) إلى دفع ثمن باهظ". وذكر الموقع أن سبعة إسرائيليين من الأحد عشر المتّهمين باغتيال "المبحوح" يحملون جوازات سفر أجنبية، وينتحلون أسماء أجنبية، ويتّهم أصحابها جهاز "الموساد" الإسرائيلي بانتحال شخصياتهم لتنفيذ عملية الاغتيال.
هنا لا بد من أن نتوقف عند مراجعة حالات الفشل والنجاح لنؤكّد ما يؤكده الباحثون والصحافيون الإسرائيليون، المتابعون لعمليات الموساد، من أن النجاحات لم تكن لتحصل لولا المساعدة التي تلقّاها الموساد من الأجهزة الأمنية والسياسية للبلدان التي يعمل فيها. وهذه المساعدة مرتبطة إلى حدّ كبير بعلاقة تلك الأجهزة والأنظمة بـ"إسرائيل" في تلك الفترة، وبالذات مع رئيس الحكومة الاسرائيلية، سلباً أو إيجاباً، باعتبار أن رئيس الحكومة هو القائد الرسمي والفعلي للموساد.
التجسّس على العدو والصديق
إضافة إلى عمليات الاغتيال التي عُرف بها جهاز "الموساد"، فقد عُرف قبل ذلك بعمليات التجسّس الواسعة والعميقة، وكان يونتان بولارد أبرز نموذج لهذا التجسّس، لسببين كبيرين؛ الأول أنه تجسّس على الولايات المتحدة، الحليف الأكبر والضامن الأقوى لوجود "إسرائيل"، والثاني أنه تجسّس على المشروع النووي، واستطاع أن ينقل إلى "إسرائيل" ما احتاجت إليه آنذاك. فإذا كانت "إسرائيل" تتجسّس على أميركا، فهل تتردّد في التجسّس على الخصوم والأعداء والحكام الذين يتلقّون منها خدمات أمنية؟
قدّمت "إسرائيل" في السابق، وتقدّم اليوم، نظام التجسّس "بيغاسوس" إلى الأنظمة الرجعية القمعية في كل مكان في العالم، في أوروبا الشرقية والقوقاز (أذربيجان مثلاً)، في أميركا اللاتينية، في شرق آسيا (فيتنام)، في القارة الأفريقية من المغرب حتى جنوب السودان، وفي الشرق الأوسط الموالي لأميركا.
وأحياناً أخرى، تستهدف "إسرائيل" دولاً أخرى لها عضوية دورية وغير دائمة في مجلس الأمن، أو في منظمات دولية أخرى، وتعمل "إسرائيل"، بذلك، على تحقيق هدفين:
الأول؛ هو نفوذ أمني استخباري لتسويق الأسلحة في هذه الدول، وخلق حالة من تبعية الأنظمة أو الحكام لـ"إسرائيل"، ومن خلال المعلومات الأمنية التي تستحوذ عليها ومعرفتها بالصراعات الداخلية في كل بلد، وبين كل بلد وآخر، تكون قادرة على ممارسة الضغوط السياسية لتحقيق مصالحها الاقتصادية.
أما الهدف الثاني؛ فيتمثّل في استخدام هذه الأنظمة في المؤسسات الدولية لصالح "إسرائيل". وهذا ينبع من خشية "إسرائيل" أن تغير الولايات المتحدة، في يوم من الأيام، موقفها في مجلس الأمن، وتمتنع عن استخدام حق الفيتو ضد قرار يعترف بالدولة الفلسطينية، كما حصل في نهاية عام 2016، عندها تحتاج "إسرائيل" إلى كل صوت في مجلس الأمن، من الدول غير الدائمة العضوية، ومنها الدول الأفريقية، ويكفيها موقف الامتناع، حتى تمنع النصاب المطلوب لاتخاذ قرار ملزم في مجلس الأمن، وهذا ما حصل عام 2016.
لقد كانت منظومات التجسّس الإسرائيلية الصنع، وعلى رأسها "بيغاسوس"، إحدى أهم الوسائل لإجبار حكام الخليج العرب على التطبيع العلني مع "إسرائيل"، الأمر الذي سمح لها بالنفوذ الأمني الواسع والعميق للوصول إلى الخليج، في أقرب نقطة من العدو الأكبر لـ"إسرائيل" في الإقليم، وهو إيران.
الأنكى من ذلك، أن منظومات التجسّس التي تستخدمها "إسرائيل" ضد أعدائها وأصدقائها في الخارج، وأشهرها برنامج بيغاسوس، الذي تنتجه شركة nso الإسرائيلية، ويُزرع في الهواتف النقالة، قد تم استخدامه للتجسّس على وزراء إسرائيليين ومديرين عامّين لوزارات، بما في ذلك المديرة العامة لوزارة القضاء، وضد أصحاب شركات خاصة ورؤساء بلديات وصحافيين ومحامين... والقائمة طويلة. هذه الفضيحة تشغل وسائل الإعلام الإسرائيلية والرأي العام والدوائر الحزبية والسياسية والقضائية في أيامنا. يبدو أنه لا أحد محصّن من التجسّس الإسرائيلي، بما في ذلك القيادات الإسرائيلية نفسها.
هنا أذكر ما قاله أحد المعلقين الأمنيين بعد محاكمة رئيس الحكومة الأسبق إيهود أولمرت، آنذاك: "لكل شخص في إسرائيل ملف أمني لدى الاستخبارات، يجري فتحه عند الحاجة". إذا كان الأمر كذلك، فلا غرابة في أن يكون لكل سياسي، أينما كان، له علاقة أو يمكن أن تكون له علاقة وموقف بقضية فلسطين، ملف لدى الموساد، أو ملف آخر لدى اللوبي الصهيوني في أميركا، يستخدم لابتزازه عند الحاجة.
هذه الفضيحة ليست الوحيدة في الأشهر الأخيرة، بل كشف قبلها عن الفساد الاخلاقي لرئيس الموساد السابق يوسي كوهين وعلاقته بامرأة إسرائيلية تعمل مضيفة طيران.
لقد كان ولا يزال جهاز الموساد يعمل في كل مكان، لا ضوابط أخلاقية له، كما قال الضابط السابق أفي إيتام، ولا حدود سياسية لعمله، ينجح حيث يُتعاون معه من داخل الدولة التي يعمل فيها، ويفشل حيث لا يُتعاون معه. إن قوته المزعومة ليست في ذاته، بل هي مرتبطة بالتعاون الاستخباري مع الأجهزة الأخرى، وهناك يكمن مقتله أيضاً. جهاز الموساد يعاني من الفساد الداخلي كغيره من أجهزة الدولة، وفضيحة يوسي كوهين الأخيرة هي مثال واحد على ذلك.
في ظل جائحة كورونا، برزت تحديات كبيرة أمام ضباط الموساد؛ لقد جمعت فحوصات اللعاب للكشف عن فيروس كورونا، قبل السفر في الطائرة، صفات الـ DNA لكل مسافر، بما في ذلك ضباط الموساد، وإن حملوا عدة جوازات سفر وعدة أسماء، إلا أن الـ DNA واحد، وبصمات الوجه والأعين واحدة. هذا المخزن الجديد لبصمات الـ DNA للمسافرين قوّض حركة ضباط الموساد، فتوقّفوا عن السفر والعمل في الدول الأوروبية، وكانت النتيجة أن استقال أربعة من رؤساء الأقسام المهمة في الموساد، والسبب في ذلك هو خشيتهم من الاعتقال، وخشيتهم من التحرك بأسماء مستعارة وجوازات سفر مزيفة اعتادوا أن يستخدموها في الماضي.
التكنولوجيا، بقدر ما كانت في خدمة الموساد أصبحت عاملاً مقيّداً لعناصره. التعاون الأمني مع الدول التي يعمل فيها الموساد لم تعد مقتصرة على من يُصدر جوازات السفر المزيفة ومن يعطيه الأوامر بذلك، بل يتطلب تعاوناً من موظفي المطارات في مختلف البلدان.
إن القوة الاستخبارية التي تتمتع بها "إسرائيل" اليوم، والنفوذ الأمني الذي منح لها في الشرق الأوسط، ولم تكن تحلم به قبل سنوات قليلة، وكذلك استعداد الدول الأوروبية وغيرها، في الماضي والحاضر، للتعاون الأمني مع جهاز الموساد، لم تأتِ نتيجة إنجازات تكنولوجية خارقة قامت بها "إسرائيل"، فالمنظومات التجسّسية موجودة في كل مكان وقابلة للبيع والشراء، بل نتيجة تعاون سياسي وأمني عربي وفلسطيني، بحكم السطوة الأميركية على هؤلاء الحكام، وإجبارهم على التعاون مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على تعدّدها، لحماية سلطتهم.
عندما تكون العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية قائمة أولاً وقبل كل شي على التنسيق الأمني، لا يمكن أن نطالب الأنظمة العربية الرجعية الموالية لأميركا بأن ترفض تعاوناً أمنياً مع "إسرائيل"، وعندما تتعاون الأنظمة العربية مع "إسرائيل"، من الصعب أن تطالَب دول أفريقيا وشرق آسيا وأوروبا بعدم التعاون مع "إسرائيل".
يبقى أن نقول إن جهاز الموساد الموبوء بفيروس كورونا، والمتآكل داخلياً بفضائح أخلاقية وسياسية، لا قيمة ولا قوة له من دون التعاون العربي، والفلسطيني أوّلاً، معه.