"حامي لديار".. غسان كنفاني يحاور جورج حبش
كان حبش يؤمن بأنَّ الموت، وإذا كان لا بد منه، فليكن على حدود فلسطين التاريخية، ونحن نقاتل كالرجال في الشمس.
عندما غنَّت له حناجر القضيّة الفلسطينيّة، صدحت قائلةً: "حامي لديار يا جورج حبش المزيون". يقصدون بذلك حامي نار القضية المشتعلة أمام الخيمة التي اختارها غسان كنفاني لسعد، لأنَّ هذه الخيمة ونارها مختلفتان حتماً عن الخيمة التي تغرق بالوحل، فالخيمة الأولى تؤمن بأنَّ علينا أن نقوم بإغلاق المزراب، أي الاحتلال، لأنه سبب هذا الوحل وهذه الخيمة. أما الخيمة الثانية، فتكتفي بتنظيف الوحل أمامها، ولكن يوماً ما سيدفن الوحل سكّان هذه الخيمة. ولذلك، قال حبش: "ثوروا، فلن تخسروا سوى القيد والخيمة".
كان حبش يؤمن بأنَّ الموت، وإذا كان لا بد منه، فليكن على حدود فلسطين التاريخية، ونحن نقاتل كالرجال في الشمس. لذلك، دق جدران الخزان، كما أوصى سعيد الذي عاد إلى حيفا يزورها ويبحث عن ابنه، فوجد نفسه يحاور اليهودية التي قامت بتربية خلدون، فقال لميريام: "طبعاً، نحن لم نجئ لنقول لك اخرجي من هنا. ذلك يحتاج إلى حرب".
قرر حبش أنَّ استرداد اللد وحيفا ويافا وعكا وعسقلان وقرية الشجرة... لن يأتي إلا عبر فوهات البنادق، لا عبر المفاوضات التي قال فيها: "سنجعل من كلِّ حمامة سلام قنبلة نفجّرها في عالم السلام الإمبريالي الصهيوني الرجعي".
كان حبش يعلم أنَّ خلدون ليس لحماً ودماً، بل هو اليوم حكومات ودول اسمها الإمارات والبحرين والمغرب، وكانت قبل ذلك مصر والأردن، حتى منظمة التحرير. جميعهم خلدون الذي يعتبرنا في الجانب الآخر، ويرى أنَّنا لا نملك الحق في أن نسأله: لماذا قُمتَ بالتطبيع؟ ولذلك، أدرك حبش أننا بحاجة إلى الفدائي خالد، لأنَّ الإنسان قضية، وقضية عن قضية تفرق.
حبش هو سعد الابن الوفي للقضية الفلسطينية وضمير حركتها الثورية. دشّن في تجربته صرحاً نضالياً أطلق عليه اسم "عود العنب" الذي زرعته أم سعد ليعطي الثمر. كان حبش يفهم أنَّ هذا العود هو الوعي الذي قال فيه: "إن المقاتل غير الواعي سياسياً كأنَّما يوجه فوهة البندقية إلى صدره"، وكان يفهم أيضاً أنَّ أم سعد ليست إلا الأرض الفلسطينية التي تحثّنا يومياً على النضال، لأن الصراع مع الاحتلال، كما كان يقول، "هو صراع وجود".
توفي حبش في 26 كانون الثاني/يناير 2008. كان عمر النكبة التي بدأ معها 60 عاماً، ورحل ولا تزال فصولها مستمرة؛ تلك الفصول التي عايشها منذ اللحظة الأولى لسقوط مدينة اللد في 11 تموز/يوليو 1948. وكان الفصل الأول في حياته عندما جاءت إحدى قريباته لتخبره بأنَّ شقيقته فوتين توفيت. وفي طريق العودة إلى البيت لمواساة العائلة، كانت الجثث تفترش الأرض، ومن بينها جثة صاحب العائلة بائع الفول.
أما الفصل الأخير، فقد كان عندما زاره القيادي في الجبهة الشعبية ماهر الطاهر في غرفة العناية المكثّفة قبل يوم من رحيله، فسأل الحكيم: "ماهر، ما هي أخبار قطاع غزة؟"، فقال له: "الجماهير اقتحمت المعبر، ودخلت إلى الجانب الآخر من الحدود يا حكيم". عندها، ابتسم وقال: "ممتاز، جماهيرنا صلبة وصامدة. اقتحمت المعبر، وسيأتي اليوم يا ماهر الذي تنهي فيه الجماهير العربية الحواجز بين الدول العربية، ويتحقّق حلم الوحدة".
بين هذين الفصلين، عاش حبش يطارد التاريخ الذي سرقوه. عاش النكبة والنكسة، وأيلول الأسود، ومعركة الكرامة، وحرب المدفعية، واجتياح لبنان، والانتفاضة الأولى، وأوسلو، والانتفاضة الثانية، وعاش الانقسام أيضاً.
كان يناضل في كل تلك المحطات من أجل فلسطين حتى يعود إليها، ولكنه كان يقول دائماً: "لن أعود إلى أرض فلسطين إلا مع آخر لاجئ". ربما علينا أن نقول له اليوم: لم تعد يا حكيم إلى فلسطين، ولكنْ ستعودُ فلسطين لك يوماً ما.
"الحكيم" هو اللقب الأكثر الشهرة لجورج حبش الطفل الّذي ولد في مدينة اللد الفلسطينية يوم 2 آب/أغسطس 1926 لعائلة أرثوذكسية ميسورة الحال. "الحكيم" هو إنسان ومناضل وقائد ثوري قُذف به من رحم النكبة الفلسطينية إلى هموم الجماهير الفلسطينية التي كان يقول فيها: "إن الشعب الفلسطيني لا يقبل الانتظار عشرين سنة أو سنة واحدة حتى تتقدم الجيوش العربية لتحرير تل أبيب. إن الجماهير الفلسطينية ستجد الدعم من مئة مليون عربي".
في الصفحات الأولى للجرائد الثورية، وفي الكتب التاريخية، وفي العديد من المقالات والمذكرات، ستجد الكثير عن تاريخ هذا الإنسان. يكفي أن تكتب اسم جورج حبش في محركات البحث، حتى تنهال عليك الروابط، لتتحدث إليك عن جورج حبش وتاريخه النضالي والاجتماعي والسياسي والثقافي والتعليمي.
ولذلك، عندما تبدأ بالكتابة عن الحكيم، تجد نفسك فجأة وقد فقدت الخيط، واختفت النهاية التي قتلت البداية. تعود مرة أخرى لتقرأ غسان كنفاني، لعلَّه يمنحك خيطاً من كلمات أبو الخيزران الجشع الذي ما زال إلى حد اليوم يعيش بيننا ويستغلّ أبو قيس وأسعد ومروان.
طوبى لك يا حكيم في ذكراك..
طوبى لمن زرعوا الثورة..
وسقوا جذرها دماً وعرقاً..
وكفاحاً مستمراً..
وبقوا عنواناً للمقاومة والحياة والانتصار القادم.