جنبلاط منكفئ أيضاً.. على طريقته

تداعيات انكفاء تيار المستقبل عن المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة تصيب بشكل موجع جداً رئيس الحزب الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط.

  • الرجل الذي ذاع صيت راداراته وكيفية التقاطه السريع للإشارات الخارجية يقول في أدائه أخيراً إنه غير معني بهذا كلّه، ويتصرف بانهزامية واضحة.
    الرجل الذي ذاع صيت راداراته وكيفية التقاطه السريع للإشارات الخارجية يقول في أدائه أخيراً إنه غير معني بهذا كلّه، ويتصرف بانهزامية واضحة.

بعد صعود الزعامة الجنبلاطية عشية وبُعيد الحرب الأهلية على أكتاف الطائفة السنية والتنظيمات الفلسطينية، استفاد النائب السابق وليد جنبلاط من الدعم السوري المطلق له أولاً، ومن تحالفه الوطيد مع الرئيس رفيق الحريري ثانياً، لتكريس زعامة سياسية تفوق بحجمها ودورها وكتلتها النيابية الحجم المفترض للطائفة الدرزية التي يتزعّمها. 

وبعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تسلَّق جنبلاط ظهر الجماهير الغاضبة ليقودهم كما تشتهي سفنه، مستفيداً من طراوة سعد الحريري وعدم إقامة أيِّ اعتبار في تلك المرحلة للقوات اللبنانية وغيرها من الأفرقاء المسيحيين، وهو ما مكَّنه من قيادة جماهير 14 آذار، لتدور حول نفسها وتبقى في محلها، بدلاً من إطاحة الطبقة السياسية كما كانت تشتهي، فيما أدى في الوقت نفسه دور صلة الوصل الجدية الوحيدة مع السعودية المتوترة، وفرنسا جاك شيراك، وفيلتمان الولايات المتحدة. 

وفي لحظاته الثورية تلك، وافق جنبلاط على توزيع عددٍ من مغانمه النيابية منذ الطائف على حلفائه الثوريين؛ مقعد لما كان يُعرف باليسار الديمقراطي، الذي بات اليوم 4 جمعيات مجتمع مدني، ومقعد للقوات اللبنانية، ومقعد لحزب الوطنيين الأحرار. 

كان هذا هو الخطأ الأول، ثم كان الخطأ الثاني، الذي يتمثل بالسماح بإنشاء كيان مستقل عنه يُعرف بـ"الأمانة العامة لقوى 14 آذار"، يتابع مع السفارات وينسّق ويقرر، في وقت طغت "نمردة" سعد الحريري على جميع أصدقاء والده السابقين، بمن فيهم وليد جنبلاط نفسه. 

أما الغلطة الثالثة، فكانت عدم تلقّفه الغفران السوريّ لكلّ إساءاته في العام 2008، حين التفّ حول نفسه، وعاد إلى نهج الإساءة من جديد. وفي ظلِّ دورانه المتواصل حول نفسه، كان يراكم الخسارة.

أولاً، في علاقاته الخارجية من سوريا، فموسكو، إلى باريس والرياض وواشنطن، يمكن أن تجمعه علاقات شخصية قوية وصداقات بمسؤولين شبه متقاعدين هنا أو هناك (باستثناء سوريا طبعاً)، لكن لم تعد هناك دولة إقليمية أو عظمى تعتبر أنَّ لديها حليفاً أو شخصاً يُعوَّل عليه في لبنان اسمه وليد جنبلاط.

ثانياً، في زعامته الدرزية العابرة لحدود الكيان اللبناني، من فلسطين، فالجولان والسويداء وإدلب، كانت رهانات جنبلاط المجنونة في تهوّرها تلحق ضرراً وجودياً لم يعرف أبناء الموحدين الدروز ما يشبهه في تاريخهم، فاندفعوا يغسلون أياديهم منه. وها هي التطورات السورية الأخيرة تبيّن بوضوح رهان الإسرائيليين على من نصّبوه رئيساً روحياً للطائفة الدرزية في فلسطين، موفق طريف، للتدخل في الشأن السوري، من دون أن يعني ذلك عدم الترحيب بأيِّ تقاطع مع وليد جنبلاط.

ثالثاً، في علاقاته الداخلية مع جميع الأفرقاء من دون استثناء، حيث لا يكاد يرسو على اتفاق حتى ينكثه من جديد، من دون حياء أو وفاء أو أخلاق سياسية. ولا شكَّ هنا في أن عودة رئيس حزب القوات سمير جعجع للتحالف معه ما كانت لتحصل لو كان لدى الأخير أي خيار آخر، إذ لا يمكن لأي سياسي يبحث عن تحالف مستقرّ أن يمد يده لجنبلاط.

انتهاء الأحادية النيابية الدرزية

بموازاة تراجع مكانته الدرزية في المنطقة، ومكانته المحلية بالنسبة إلى الأفرقاء الخارجيين والداخليين، كان نظام الانتخاب النسبي الجديد ينهي في العام 2018 الإمارات الجنبلاطية المستقلة، ويحطم أسوار الشوف وعاليه، حيث كان الآمر والناهي الوحيد الأوحد، فبات أكثر من نصف النواب غير جنبلاطيين. 

ومع ذلك، حافظ جنبلاط على تماسكه السياسيّ، نتيجة تقديم تيار المستقبل مقعداً نيابياً له في بيروت، وحاصلاً انتخابياً في دائرة الشوف وعاليه، فيما قدم الثنائي الشيعيّ له مقعداً مباشراً في حاصبيا ومقعداً غير مباشر في الشوف، عبر حجب أصواتهم عن الوزير السابق وئام وهاب.

أما اليوم، فلا توجد فرضية انتخابية واحدة تضمن لجنبلاط الاحتفاظ بمقعد بيروت الدرزي، إذ سيخسر تمثيله السياسي الرمزيّ في العاصمة، وهو لم يترك للصلح "أي مطرح" حتى تتكرر ظاهرة النائب أنور الخليل في حاصبيا، وسيخسر تمثيله السياسي الرمزي في حاصبيا أيضاً.

أما في الشوف، فإن ثمن الاحتفاظ بالمقعدين الدرزيين في مواجهة وهاب سيكون كبيراً جداً، إذ سيخسر جنبلاط حليفه الكاثوليكي منذ أكثر من 3 عقود (النائب نعمة طعمة)، في ظلِّ تسليمه بخسارة أحد المقعدين الدرزيين في عاليه لمصلحة النائب طلال أرسلان.

وفي مقعد راشيا، تنتظر جنبلاط معركة غير محسوبة في حال تمسّك بترشيح النائب وائل أبو فاعور، ولم يجد حليفاً قوياً من الطائفة السنية. وبالتالي، فإنه يخسر حتماً 3 مقاعد درزية على الأقلّ من أصل 8، فيما يمكن أن ترتفع الخسارة إلى 4 مقاعد في حال نجح وهاب في الشوف، إذ سيتكرس وجود ثنائية درزية جديدة على المستوى النيابي في جميع الأحوال، كما لم يكن أحد يتخيل من قبل. وعلى مستوى الكتلة النيابية التي تضمّ اليوم 11 نائباً، سينخفض العدد إلى أقل من 7 نواب، يتموضع أكثريتهم في قضاءين فقط.

خيبة فوق خيبة فوق خيبة

في النتيجة إذاً، سيكون لدى جنبلاط كتلة نيابية أصغر، بموازاة إنهاء الأحادية النيابية الجنبلاطية، بموازاة إنهاء التمثيل النيابي الجنبلاطي في حاصبيا وبيروت، بموازاة عدم وجود حليف محلي ثابت وجدي إلى جانبه، بموازاة انقطاع غير مسبوق لعلاقاته مع المحيط الدرزي، بموازاة حد أدنى من الاهتمام السعودي والفرنسي والأميركي بالزعامة الجنبلاطية، فيما توطد الإمارات علاقتها بأفرقاء دروز مناوئين له، بموازاة وريث سياسي يصرّ على التصرف كما لو أن السياسة سمّ لا بد من تجرعه. 

يُضاف إلى هذا كلّه نمو كبير لظاهرة المجتمع المدني و"الثوار" في البيئة الدرزية، إذ تبين الأرقام فشل "17 تشرين" في اختراق البيئة المارونية الحزبية والعائلية، والبيئتين الشيعية والسنية، مقابل استقطابها عدداً كبيراً ومؤثراً من الشباب والشابات الدروز الذين لا يجدون في أحزابهم وعائلاتهم ما يلبي طموحاتهم، وهو ما يضع جنبلاط اليوم بين فكّي كماشة: خصوم تقليديين يسمح لهم قانون الانتخاب بالاستفادة من موازين القوى المحلية والاقليمية لمهاجمته، وخصوم جدد يزايدون عليه ويحرجونه في بيئته بخطابهم التحريضيّ على حزب الله. والمفارقة الأسوأ بالنسبة إليه هي أنّ المجموعتين في غاية الحماسة للعمل السياسي، بعكس تيمور وليد جنبلاط وغالبية الاشتراكيين المتعبين بعد كل هذه العقود في السلطة من دون نتيجة.

الرجل الذي ذاع صيت راداراته وكيفية التقاطه السريع للإشارات الخارجية من أجل التموضع على أساسها، يقول في أدائه أخيراً إنه غير معني بهذا كلّه، ويتصرف بانهزامية واضحة. صحيح أنه يهجم ويهاجم، إلا أنه يهجم ويهاجم بالرايات البيضاء، ولا شيء آخر، فلا سيوف، ولا وعود، ولا طموح، ولا آمال، ولا معنويات، ولا حسابات خارجية يعول عليها. وفي أدائه اليومي، يظهر تصالحه مع نفسه ومع هزيمته ومع قطعه المتهور لكلّ "خطوط الرجعة".

سعد الحريري انكفأ بطريقة. وليد جنبلاط لديه طريقته هو الآخر للانكفاء.