تونس: هل يُصبح التطبيع خيانة بحكم القانون؟
الموقف التونسي، رسمياً وشعبياً، ما زال عند ثباته، وإن انزلاق بعض الدول العربية إلى مستنقع التطبيع لا يعني أن تونس قد تكون قطعة الدومينو التالية.
أعلن البرلمان التونسي في 1 آب/أغسطس الجاري، بدء لجنة الحقوق والحريات دراسة مقترح قانون، يطالب بـتجريم التطبيع مع كيان الاحتلال. وقدمت اللجنة قراءة أولية بخصوص أهمية مشروع القانون بالنسبة إلى الشعب التونسي، ومساندته غير المشروطة للقضية الفلسطينية العادلة. وقررت اللجنة عقد جلسة استماع لجهة المبادرة، يتم على إثرها ضبط جلسات استماع إلى مختلف الأطراف المتدخلة، وذلك للاستنارة برأيها حتى يكون مقترح القانون جاهزاً، شكلاً ومضموناً.
ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها تجريم التطبيع من خلال البرلمان التونسي. فخلال مداولات المجلس التأسيسي لكتابة الدستور عام 2014، طرحت ضرورة أن ينص الدستور التونسي على مناهضة كل أشكال الاحتلال والعنصرية، وعلى رأسها الصهيونية.
لم يُكتب للمشروع أن يمر أو يرى النور، وأُسقط حينها عندما تحفظ 57 من نواب حركة النهضة، التي كان لها آنذاك الأغلبية في المجلس التأسيسي، ووافق 9 وعارضه 11 نائباً. والمصير ذاته كان لمشروع قانون مناهضة التطبيع، الذي تقدّمت به الجبهة الشعبية للبرلمان التونسي عام 2015. والمصير نفسه تلقته المبادرة التشريعية لتجريم التطبيع، والتي تقدمت بها الكتلة الديمقراطية في كانون الأول/ديسمبر 2020. وعادت الكتلة وأودعت، في 18 أيار/مايو 2021، طلباً، بصفة الاستعجال، للنظر في مشروع القانون.
ظل مشروع قانون مناهضة التطبيع، الذي تقدمت به الجبهة الشعبية إلى البرلمان التونسي عام 2015، طيَّ النسيان، حتى عادت حركة الشعب، عقب اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال، واستعادت وضع مشروع القانون أمام البرلمان التونسي بعد أن جمعت أكثر من 100 توقيع من مختلف الكتل البرلمانية. وقبل ذلك قادت حملة وطنية لجمع مليون توقيع للضغط على نواب البرلمان من أجل تسريع النظر في قانون تجريم التطبيع.
يُعَدّ مشروع قانون تجريم التطبيع، الذي تقدمت به الجبهة الشعبية عام 2015، من أبرز المشاريع المقدمة والمطروحة، إذ احتوى على ستة فصول تجرّم جميع المعاملات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، ويعاقَب المطبّعون بالسَّجن من عامين إلى خمسة أعوام، وبغرامة من أربعة آلاف إلى أربعين ألف دولار.
تجريم التطبيع في تونس لم يقتصر على مشاريع القوانين، التي قدمتها الكتل البرلمانية، والتي يلاحظ أنها كلها تقدَّم بها التيار القومي والتيار اليساري، بينما لم يسجَّل لتيارات في تونس تقديم أي مشروع لتجريم التطبيع، حتى باتت مؤخراً الأخبار المتعلقة بالتطبيع تُستخدم وتمرَّر وتوظَّف كمزايدات في الخلافات السياسية القائمة في المشهد السياسي التونسي، وتحديداً بين حركة النهضة، التي خرجت من المشهد منذ 25 تموز/يوليو 2021، والرئيس قيس سعيد.
تجريم التطبيع، بالنسبة إلى تونس، في شقيها الرسمي والشعبي، ليس مجرد مزاد سياسي، ولا مسألة ثانوية يمكن تجاوزها والقفز عنها، وغير محكوم بمجرد نص قانوني يصوّت عليه البرلمان. فبعض الدول العربية هرول إلى مستنقع التطبيع على رغم وجود نص قانوني، كالإمارات مثلا، وبعدها سودان اللاءات الثلاث.
في تونس "التطبيع خيانة"، كما وصفه الرئيس التونسي قيس سعيد، في تعقيبه على الخطة الأميركية، التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ووصفها بأنها "مظلمة القرن" وليست صفقة القرن.
وقال الرجل، في نهاية كانون الثاني/يناير 2020: "أنا هنا لأبيّن موقفي من مظلمة القرنين؛ مظلمة القرن الماضي، ومظلمة جديدة في مطلع هذا القرن، لأن فلسطين ليست ضيعة أو بستاناً حتى تكون موضع صفقة، وحق فلسطين لا يسقط بالتقادم".
أمّا فيما يتعلق بالتطبيع، فكان الرجل واضحاً عندما قال: "لا يمكن أن أتراجع عما قلته سابقاً. فالتطبيع مفهوم دخيل، دخل اللغة العربية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد. لذلك، فإن القضية اليوم لا تُعَدّ تطبيعاً، فالوضع الطبيعي مع هذا الكيان المغتصب أن نعمل على إنهاء هذا الاغتصاب وتشريد الشعب الفلسطيني".
عندما كان كيان الاحتلال يُمرّر بالونات اختبار لجس النبض في تونس بشأن التطبيع، كما حدث في حزيران/يونيو 2022، عندما ادّعت صحيفة "إسرائيل اليوم" وجود محادثات سرية بين كيان الاحتلال وتونس من أجل تطبيع العلاقات، أصدرت وزارة الخارجية التونسية، في اليوم التالي، بياناً تنفي فيه ذلك، بل تستبعد حدوثه. وقالت، في بيانها، إنها تنفي "نفياً قاطعاً ما يروّجه بعض المواقع التابعة للكيان الإسرائيلي المحتل من ادعاءات باطلة بشأن وجود محادثات دبلوماسية مع تونس".
وأضافت الوزارة أن "تونس غير معنية بإرساء علاقات دبلوماسية بكيان محتل، وستظل رسمياً وشعبياً (...) سنداً للأشقاء الفلسطينيين في نضالهم إلى حين استرداد حقوقهم المشروعة، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس".
وفي آب/أغسطس الماضي، عندما تداولت تقارير إخبارية وجود مبادلات تجارية بين تونس وكيان الاحتلال، أعلنت وزارة التجارة وتنمية الصادرات التونسية التزامها أحكامَ "المقاطعة" العربية لكيان الاحتلال، وفق مبادئ جامعة الدول العربية، ليتبيّن لاحقاً أن المواد التجارية التونسية وصلت إلى كيان الاحتلال عبر فرنسا، وبواسطتها. وبالتالي، فإن ما يحدث في تونس هو تجريم التطبيع، شعبياً ورسمياً، من دون أن يكون هناك نص قانوني بذلك، على الرغم من أهمية ذلك.
إن التوقيت والبيئة لطرح مقترح قانون يطالب بتجريم التطبيع بواسطة لجنة الحقوق والحريات في البرلمان التونسي، وبتقديم قراءة أولية بخصوص ذلك، يعنيان أن بالونات الاختبار التي يمررها الاحتلال بين الحين والآخر لم ولن تمر.
الموقف التونسي، رسمياً وشعبياً، ما زال عند ثباته، وإن انزلاق بعض الدول العربية إلى مستنقع التطبيع لا يعني أن تونس قد تكون قطعة الدومينو التالية، وإن التلويح بتطبيع مرتقب بين الرياض و"تل أبيب" لا يعني أن تونس على قارعة الطريق تنتظر دورها.
هناك جملة محدِّدات تحمي تونس من الوقوع في مستنقع التطبيع. وحتى إن ذهبت مجموعة من القراءات السياسية الحزبية التونسية إلى أن التلويح بمشروع تجريم التطبيع مجرد رفع عتب للبرلمان التونسي، ومحاولة لامتصاص غضب الشارع، فإن هذا يعني أن الشارع التونسي رافض بصورة قطعية للتطبيع، ومهتم بتجريمه.
والمزاج الشعبي العام في تونس يميل، عبر الوعي والفطرة، إلى القضية الفلسطينية، ويَعُدُّها "أُمّ القضايا". وحتى عندما كان الشعب التونسي يطالب برحيل زين العابدين بن علي ونظامه كقضية مركزية، لم يُسقط فلسطين من شعاراته وحساباته وأولوياته، وقال إن "الشعب يريد تحرير فلسطين".
عندما ضاقت الجغرافيا العربية بمقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، لاذت المنظمة ومقاتلوها آنذاك بتونس. واستُقبلوا استقبال الأبطال في بنزرت. والأهم أن اعتداءات كيان الاحتلال على السيادة التونسية وجريمته في حمام الشط في ضاحية تونس الجنوبية عام 1985، في محاولة تصفية قيادة المنظمة، ثم جريمة اغتيال الشهيد القائد خليل الوزير عام 1988 في سيدي بو سعيد، وصولاً إلى اغتيال المهندس الطيار الشهيد محمد الزواري في مدينة صفاقس عام 2016، كلها جرائم ما زالت حاضرة وعالقة في ذاكرة الشعب التونسي، وتَحُول دون انزلاق تونس إلى مستنقع التطبيع، بحكم التاريخ وبنص القانون.