تهديدات الكيان لفرضية الاتفاق الأميركي الإيراني.. صراخ يستجدي حفظ أمنه القومي
السعي الأميركي للتفاوض مع الجمهورية الإسلامية يؤكد محدودية الخيارات الأميركية، ولا يُعد خياراً مناسباً للكيان الإسرائيلي وحكومته في هذه المرحلة.
لم يخفت الاهتمام الأميركي بمآلات البرنامج النووي الإيراني، على الرغم من التحول الجوهري الذي دلّت عليه استراتيجية الأمن القومي التي أعلنتها الإدارة الأميركية نهاية العام الماضي؛ فالقناعة الأميركية التي تكرست حول اعتبار الطموح الصيني الروسي، المتمثل بالسعي لتغيير قواعد النظام الدولي المنتظم وفق تفوق أميركي، تهديداً استراتيجياً، لم تدفع باتجاه إهمال قضية البرنامج النووي الإيراني.
لقد دأبت الإدارة الأميركية على إبقاء هذا الملف في دائرة اهتمامها اليومي في التشديد على عدم التسامح في ما قد يهدد الأمن القومي الأميركي، ومن خلفه الإسرائيلي، مع التسويق لانعكاس هذا الخطر على السلم والأمن الدوليين.
وعلى الرغم من إعلان فشل المفاوضات التي امتدت إلى 8 جولات بسبب تمسّك كلّ طرف بشروطه، إذ إن رفض إيران التفاوض حول برنامجها الصاروخي وعلاقاتها الإقليمية جاء متوازياً مع مطالباتها بضمانات تتعلق بعدم انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق مستقبلاً، إضافة إلى عدم مغادرة الشركات الأجنبية إيران وعدم فرض عقوبات جديدة، في مقابل رفض الإدارة الأميركية رفع كامل العقوبات والتعهد بعدم العودة عن الاتفاق مع ما تعنيه هذه المواقف من إمكانية تدهور الأوضاع بينهما، لم يتخلَّ الطرفان عن فرضية التفاوض والتواصل غير المباشر كوسيلة وحيدة لحل إشكالية العلاقة بينهما، إذ ساهمت بعض الدول الأوروبية، كفرنسا وألمانيا، ثم العراق وسلطنة عمان، في ذلك.
في ظلّ التوترات العالمية، لم يحظَ الإعلان الأميركي عن فشل المفاوضات مع الجمهورية الإسلامية بالاهتمام المفترض، إذ إنَّ أي تقدير واقعي للرد الإيراني كان سيفترض هذه السلبية انطلاقاً من تغيُر موازين القوى التي سببتها العقوبات الغربية على روسيا، التي كان متوقعاً أن تنعكس إيجاباً على الواقع والموقف الإيرانيين.
رد الفعل الروسي المفترض على هذه العقوبات كان سيتبلور حكماً على شكل انفتاح روسي غير محدود تجاه الدول الخاضعة لعقوبات أحادية غربية، وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية. بالتوازي، لا يمكن قراءة الموقف الصيني خارج هذا التوجه، إذ يتكامل الرفض الصيني لمنطق العقوبات الأحادية مع استراتيجيتها التي تبلورت أخيراً في الشرق الأوسط من خلال تفكيك عقد العلاقة بين دول المنطقة، ومن خلال رسم خارطة العلاقات مع دولها بعيداً من منطق الخضوع للمحظورات الغربية التي تكرست منذ الحرب الباردة.
رغم كل التسريبات التي تحدثت عن استمرار الطرفين الأميركي والإيراني في مسعى الوصول إلى حل لأزمة البرنامج النووي الإيراني عبر الحلول الدبلوماسية، لم يكن من المنطقي المراهنة على جدية هذا التوجه، إذ ترسخت في الوعي الجماعي العالمي قناعة بمحدودية جدوى الحوار ضمن حدود التواصل الَّذي قد يساهم في منع تفجر الوضع فقط، وذلك انطلاقاً من الحاجة المتبادلة إلى الحفاظ على حد أدنى من التواصل الضروري لتفادي أي خطوة غير محسوبة قد تنزلق إلى مواجهة مباشرة في الخليج أو في الساحات التي تشهد احتكاكاً مباشراً بينهما.
وإذا كان من غير المنطقي التقليل من الجهود العُمانية الكبيرة التي تُوجت في الفترة الأخيرة بزيارة السلطان هيثم بن طارق إلى الجمهورية الإسلامية، والتي أعقبت زيارات متتالية لمسؤولين أميركيين إلى عمان، كان آخرها زيارة كبير مستشاري الرئيس الأميركي بريت ماكجورك، فإن ما كان لافتاً أن الإشارات إلى جدية التواصل وإمكانية الوصول إلى اتفاق بين الطرفين الإيراني والأميركي صدرت عن "تل أبيب".
وإذا كان الإعلام الإسرائيلي قد أوحى بارتفاع منسوب القلق من نتائج هذا التواصل، بما يوحي بقرب الوصول إلى اتفاق، فإن الطرفين الأميركي والإيراني أعلنا صراحةً عدم صحة ما يروج من نتائج متوقعة.
أما عن تصريحات القادة الإسرائيليين، إضافة إلى تحليلات وسائل إعلامهم عن جدية القرار الإسرائيلي بتبني حلول أحادية لمواجهة التهديدات الإيرانية، فإنها لم تكن مبنية على خطط عسكرية واستخباراتية، إذ أعلن "الجيش" الإسرائيلي أن تهديداته لا تعني التحضير للحرب، إنما جاءت نتيجة بروباغندا إعلامية تهدف إلى التهويل من خطر ردود الفعل الإسرائيلية على ما سمعه المسؤولون الأمنيون والعسكريون الذين زاروا واشنطن حول استبعاد الولايات المتحدة أي خيار أمني أو عسكري ضد الجمهورية الإسلامية في المرحلة الحالية على الأقل.
وبناء عليه، يمكن وضع التهديدات الإسرائيلية في إطار رفع الصوت في وجه الإدارة الأميركية، إذ إن الإشكالية لا تتعلق بضمان سلمية البرنامج النووي أو تقييد إيران بترتيبات أمنية إقليمية؛ فالقراءة الإسرائيلية لأي اتفاق أميركي مع الجمهورية الإسلامية، حتى ولو قيَد البرنامج النووي، تفترض خطراً استراتيجياً على الكيان المعني أصلاً بمحاصرتها والتحضير لإسقاطها.
السعي الأميركي للتفاوض مع الجمهورية الإسلامية يؤكد محدودية الخيارات الأميركية، ولا يُعد خياراً مناسباً للكيان الإسرائيلي وحكومته في هذه المرحلة؛ فإذا كان الكيان الإسرائيلي لم يتوصل حتى اللحظة إلى تقدير المفاعيل المتوقعة للمصالحة الإيرانية السعودية والانفتاح العربي على سوريا، فإن أي توجه أميركي تصالحي تنازلي تجاه الجمهورية الإسلامية سيضر بشكل دراماتيكي بأمنه القومي المتأكّل أصلاً جراء تراكم القدرات الردعية للبيئة المعادية له في الإقليم.
وبناء عليه، يشكل السلوك الإسرائيلي في هذه المرحلة تعبيراً عن قلق القيادة السياسية وعدم ثقتها بالظروف المحيطة بالكيان؛ فعلى الرغم من إعلان بلينكن، ومن خلفه الإدارة الأميركية، أمام "أيباك" أن عدم السماح بامتلاك طهران لسلاح النووي من جهة، والسعي لدمج الكيان الإسرائيلي في الشرق الأوسط وتطبيع علاقاته مع المملكة العربية السعودية من جهة أخرى، يخدمان الأمن القومي الأميركي، تستشعر الحكومة الإسرائيلية خطر التحولات الإقليمية بشيء من الواقعية، إذ إن التحضير لعمل عسكري أميركي إسرائيلي مشترك ضد الجمهورية الإسلامية استُبدل بسعي أميركي لتفاهم لا يراعي توجهات الكيان الاستراتيجية، والتطبيع مع المملكة العربية السعودية والسعي لتشكيل حلف عربي إسرائيلي ضد إيران استُبدلا أيضاً بانفتاح عربي على الجمهورية الإسلامية واعتراف بموقعها الإقليمي، مع ما يعنيه هذا الأمر من تخلٍ عربي عن مشروع مواجهتها.
من هنا، يستشعر الكيان الإسرائيلي أخطار المرحلة المقبلة، إذ تحول تطابق رؤاه الاستراتيجية مع تلك الأميركية إلى تطابق نظري قد يسقط أمام أي اختبار عملي على أرض الواقع. وإذا كان من الممكن أن نستقرئ واقعياً ما يهدف إليه من خلال رفع منسوب تهديداته، فإن ما يردده قادة الأجهزة الإسرائيلية اليومية حول استحالة نجاح أي عمل أحادي إسرائيلي لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، إضافة إلى قدرة محور المقاومة على تنفيذ رد انتقامي غير محدود لناحية كثافة النيران وامتداد المدة الزمنية، يجعل من الصراخ الإسرائيلي مجرد انتفاضة للفت نظر الإدارة الأميركية إلى ضرورة أخذ هواجس الكيان الإسرائيلي في الاعتبار متى دنت ساعة توقيع اتفاق كهذا.