تعود رائحة البارود لتنبعث من سوريا.. هل هي صدفة أو فصل جديد في لعبة الأمم؟
انتصرت سوريا، واستعادت أغلب جغرافيّتها بقوّة، وعادت إلى الساحة الدّولية والعربيّة بعلَمها، وبرئيسها المُنتخب بشار حافظ الأسد، وباستتباب الأمن النسبي فيها.
إنَّ مقاربة الحالة السوريّة بعواصف شمالها واشتباكات المجموعات المسلّحة، لا يمكن أن تتم من دون الدخول من باب الولايات المتّحدة وتحالفها الموجود بقوّاته ومصالحه الجمّة في سوريا. إنّ ما يحدث حالياً في سوريا، وتحديداً في الحسكة، بين "قوات سوريا الديمقراطيّة"، الفصيل الكردي المسيطر على جزء من الشّمال السوري، وتنظيم "داعش"، في محيط سجن الصناعة جنوب الحسكة، يثير أسئلةً وشكوكاً حول التوقيت والهدف البعيد والرسائل المبطّنة على المستوى الاستراتيجي لمشروعيّة بقاء قوّات التحالف الأميركي في الجزء الشمالي من سوريا.
كلّ من تابع الحرب في سوريا منذ بداية المسلسل الكوني في العام 2011، يعلم أنّ حجّة الوجود الأميركي وأيّ احتلال آخر في سوريا، هو القضاء على الإرهاب في مهده، والسعي لعدم تمدده نحو أوروبا وضفاف نيويورك وواشنطن، والمساهمة في القضاء على "داعش"؛ هذه البدعة التي أفشت سرّها وزيرة خارجيّة باراك أوباما، هيلاري كلينتون، أكثر من مرّة، عندما أشارت إلى أن هذا التنظيم صناعة أميركيّة بمباركة سعوديّة، وأنّ قادته وعناصره يتلقون التمويل والخبرة والتدريب من عناصر وضباط أميركيّين في معسكرات داخل سوريا وخارجها، فضلاً عن المساعدات المعسكريّة والاستراتيجية الميدانية، من ضربات جويّة أمّنت المساعدة لـ"داعش" ليتوغّل ويتوسّع في سوريا.
ثمة تناقض بين المُعلَن من شعارات مواجهة الإرهاب ومساعدة الشعوب الحرّة في نيل حريّتها وتحقيق العدالة والديمقراطيّة، والعمل في الكواليس لصناعة الكوابيس الإرهابية، بهدف تثبيت الوجود وتحقيق المصالح الاستراتيجيّة في الشرق الأوسط، وخصوصاً أن سوريا شكّلت، وما زالت، رقعة تنافس بين عدد من القوى، ومن الطبيعي أن تحجز الولايات المتحدة لها مكاناً في هذه الرقعة، وأن تختلق سبباً لبقائها أطول مدّة ممكنة.
في خضم الحرب السوريّة، طالع ترامب العالم بأنّ أميركا تحمي النفط السوري وتُبعده عن "داعش"، الذي سيكتسب أجلاً وقوّة، على حدّ زعمه، في حال حصل على النفط، ولكن هل يحمي الذئب القطيع؟ كان هذا ضرباً آخر من ضروب إقناع المجتمع الدولي بدور الوجود الأميركي في سوريا، والّذي كان يفقد مشروعيّته في أعين هذا المجتمع كلّ مرّة يتقدّم فيها "داعش" في ظلّ تواجد الأميركيين، بحيث أثار ذلك أسئلةً مشروعة، حتى من أشدّ المعجبين بأميركا؛ دولة الأحلام.
وفي ظل وجود أميركا وجحافلها في الشمال السوري، كيف لـ"داعش" أن يقوى كلّ يوم؟ لماذا لم ينتهِ هذا "البعبع" الإرهابي الذي أتيتم من أجل القضاء عليه أو أنه شمّاعة للحلول في سوريا والبقاء فيها؟
مع اشتداد عزم القيادة السوريّة وحلفائها على ضرورة القضاء على "داعش" في أسرع وقت ممكن لترتيب الوضع الميداني السوري والدخول في مرحلة التعافي من الحرب، وبعد معارك ضارية وانتصارات سُطّرت في تدمر والأرياف والبوكمال، حصل ضمور في وجود "داعش" وقوته، وأفل تدريجياً مشهد الدم والإرهاب.
هذا الأمر أتاح للمساعي السياسيّة أن تبرز إلى الواجهة، لتعود سوريا مثل أسدٍ بعد صراع، وتكون أقوى وأكثر منعةً وخبرةً وعنفواناً، وتملك من الأوراق ما يكفي لتفرض أكثر مما يُفرض عليها في أيّ جولة مفاوضات أو مقايضات أو تفاهمات، فرأينا عودة الرياح العربيّة إلى دمشق، من الأردن إلى الإمارات، وحتّى قطر والسّعوديّة. في النهاية، يبقى الاحترام للأقوى.
انتصرت سوريا، واستعادت أغلب جغرافيّتها بقوّة، وعادت إلى الساحة الدّولية والعربيّة بعلَمها، وبرئيسها المُنتخب بشار حافظ الأسد، وباستتباب الأمن النسبي فيها. ومن الطبيعي أن تفتح الأوراق لجردة حساب، وأن تحارب الطرف الذي دخل عنوةً إلى أراضيها، أي الولايات المتحدة، التي يبدو أنها ليست مستعدة لتكرار مشهد الخروج الخاسر من أفغانستان بعد سنين من إعلان دخولها إليها لمحاربة "طالبان" والإرهاب، وإذ بالحركة أكثر قوّة بعد خروجها.
بعد هذا وذاك، نعود إلى الحسكة، وفكرة إعادة اختلاق "داعش" من جديد، لإضفاء المشروعية مرّةً أخرى على سبب وجود القوات الأميركيّة في سوريا، المتزامن مع عودة تفعيل المعارضات السياسية السوريّة ومحاولة توحيدها برعاية قطريّة وتركيّة ومساعٍ سعوديّة لكسب بعض النقاط، أملاً بأن يكون لهؤلاء جميعاً دور في القادم من الأيام في المشهد السوري.
إذاً، هي مرحلة إعادة التموضع وكسب النقاط لكلِّ الأطراف التي تآمرت على سوريا، سعياً لمصالح الوجود في الشرق الأوسط أو لإضعاف العمق والبعد الأسترتيجي للمقاومة والطوق الذي تمثله سوريا على "إسرائيل"، والذي لا بدّ من أن يكون ضعيفاً، فأمن "إسرائيل" مرتبط بمدى هشاشة الأنظمة العربيّة وقدرتها على التركيز ناحية القدس.
سنرى إعادةً لبثّ مسلسل "داعش" إلى الواجهة، ثمّ سنرى أبطالاً معارضين جدداً، ثمّ الدوامة نفسها، لكن بقيادة سوريّة أكثر خبرةً ومشروعيّة، وبيد عليا على أي محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
مشاهد سوريا واليمن، والسعي لخناق المقاومة، ثمّ الرّسل الآتية من الخليج، هي كلّها صناعة غرفة بيضاء واحدة تسكن واشنطن، والهدف هو مصالحها في هذا الشرق الأوسط، بوابة الشرق الأقصى، أي الصين وما حولها، وحماية أمن "إسرائيل"، الطفل المدلل للولايات المتّحدة، شرطي العالم، وصاحب الإملاءات التي اصطدمت بمن يقول لا، وهذا لا يروقها.