تطبيع سوداني مع "إسرائيل".. ما الذي تغيّر؟
التقارب السوداني الإسرائيلي يصنّف في خانة الاختطاف والإكراه، إذ أن العلاقات بين الدول والشعوب تقوم على الرضائية وليس فرض الأمر الواقع، لهذا فإن مثل هذا الاتفاق الداعي للتطبيع سيكون مرهوناً بالنظام العسكري الحالي الحاكم في السودان.
قبل ستة وخمسين عاماً انعقدت القمة العربية الرابعة في الخرطوم ورفعت اللاءات الثلاث، لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض، في موقف عربي مشترك ضد "إسرائيل" بعد احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء، وصف هذا القرار آنذاك أنه أقوى القرارات في تاريخ القمم العربية التي عقدت. أما اليوم فأصبحت عاصمة اللاءات الثلاث تقول نعم للسلام مع "إسرائيل"، نعم للاعتراف بـ "إسرائيل"، ونعم للتطبيع مع "إسرائيل".
ما بين 29 آب/أغسطس و1 أيلول/سبتمبر 1967، إلى شباط/فبراير 2023 يوم استقبل رئيس المجلس السيادي العسكري السوداني وزير خارجية "إسرائيل" إيلي كوهين واتفقا على الخطوط العريضة لتوقيع اتفاق التطبيع وأعلنا بشكل مشترك عزم السودان توقيع اتفاق تطبيع رسمي مع "إسرائيل"، تكون السودان قد كسرت اللاءات الثلاث وشيّعتها إلى مثواها الأخير، وانضمت إلى ركب الدول التي طبّعت مع "إسرائيل"، وأصبحت في قائمة الدول الصديقة لها.
فما الذي تغيّر بعد عقود من عدم الاعتراف بـ "إسرائيل"؟ وما هي الدوافع التي جعلت السودان تنخرط في هذا المسار الخطير؟ وماذا عن توقيت هذه الخطوة؟ وفي أي سياق يندرج انضمام السودان إلى مركب المطبّعين في وقت يتعرّض فيه الشعب الفلسطيني لأبشع مجازر القتل والبطش والإرهاب من قبل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة؟
ما انطلق قديماً وراء الستار بات اليوم في العلن، التحوّلات في السياسة السودانية تجاه القضية الفلسطينية لم تأتِ فجأة، بل يعود أصل الحكاية، منذ أن بدأت سلسلة زيارات أمنية واستخباراتية سرية قام بها عسكريون سودانيون في السودان إلى "إسرائيل" ورتّبوا معها هذا المسار على نار هادئة، ليكون الإعلان الأول من عاصمة اللاءات الثلاث وعلى لسان إيلي كوهين الذي شغل منصب رئيس الموساد الأسبق ومهندس اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية، أن التطبيع مع السودان آتٍ لا محالة في أولى زياراته الخارجية بعد تشكيل الائتلاف الإسرائيلي بزعامة نتنياهو.
انضمام عسكر السودان إلى ما تسمّى اتفاقات أبراهام يعد جريمة بحق القضية الفلسطينية من جهة، واستخفافاً بمشاعر السودانيين الرافضين لهذا التقارب مع "إسرائيل" من جهة أخرى. وربما السؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف للخرطوم عاصمة اللاءات الثلاث أن تبيع القضية الفلسطينية؟ هل لأجل أن يحافظ كل من حميدتي والبرهان على سلطتيهما؟!
"إسرائيل" بالدرجة الأولى تبحث عن مصالحها وأمنها القومي في البحر الأحمر فقط، ولا مبرّر على الإطلاق من خطوة السودان توقيع اتفاق تطبيع مع "إسرائيل"، والأخيرة هي المستفيد الأكبر من التطبيع، والسودان ستصبح بوابتها إلى القارة الأفريقية لتشكّل موطئ قدم لها للتغلغل أكثر في أفريقيا وستحاول السيطرة على مضائق مائية فيها تمكّنها من التحكّم والسيطرة، وستكون لها أهداف اقتصادية وأخرى أمنية تتعلّق بمنع وقطع أي إمدادات عسكرية متوقّعة لفصائل المقاومة الفلسطينية.
أما السودان فتذهب اليوم إلى خيار التطبيع تحت بندَي، الإغراء بحل أزمته الاقتصادية من جهة، والابتزاز من أجل رفعه من تصنيف قوائم الإرهاب الأميركية من جهة أخرى، وهذا التطبيع المرتقب معناه أن "إسرائيل" نجحت في ابتزاز السودان، بعد أن تآمرت عليه في جنوب السودان.
ثمّة مسألة مهمة في هذا السياق، هي أن أميركا و"إسرائيل" شريكتان في ابتزاز السودان معاً وتعملان ضمن إطار معادلة واحدة، من خلال تصنيفها في قوائم الإرهاب، ثم فرض عقوبات عليها وابتزازها لإجبارها على إقامة علاقات استخباراتية أمنية مباشرة مع "إسرائيل"، وهذه المعادلة ستجعل السودان فريسة لـ "إسرائيل" مثلما جرى مع حكومات عربية أخرى بالطريقة نفسها.
الدور الأميركي ليس غائباً عن المشهد، وهذا يؤكد أن إدارة الرئيس الأميركي بايدن تمعّن فيما بدأته إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المتمثّل بمشروع صفقة القرن والتطبيع مع المحيط العربي على حساب القضية الفلسطينية ومحاولة عزلها وتصفيتها، وعلينا أن نتوقف أمام تصريحات نتنياهو الأخيرة لشبكةCNN ، والتي اعترف فيها بشكل صريح وواضح أن الهدف من اتفاقيات التطبيع التي جرت وستجري هو عزل الفلسطينيين ثم الاستفراد بهم. وهذا مؤشّر على نوايا حكومته اليمينية المتطرفة أن برنامجها مع الفلسطينيين سيكون بعنوان "نظام فاشي عنصري إرهابي"، أو ما يطلق عليه من وجهة النظر الإسرائيلية السلام العملي، أي عملية إخضاع الفلسطينيين بالقوة لحسم الصراع معهم.
التقارب السوداني الإسرائيلي يصنّف في خانة الاختطاف والإكراه، إذ أن العلاقات بين الدول والشعوب تقوم على الرضائية وليس فرض الأمر الواقع، لهذا فإن مثل هذا الاتفاق الداعي للتطبيع سيكون مرهوناً بالنظام العسكري الحالي الحاكم في السودان.
التطبيع مع "إسرائيل" خيار يتعارض مع مشاعر وقيم وأخلاق الشعب السوداني، وكمسار يعد منبوذاً ومرفوضاً على صعيد شعوب الأمة بأكملها، وحتى في الدول التي سبق أن وقّعت اتفاقيات تطبيع مع "إسرائيل". وما استطلاعات الرأي الأخيرة التي كشف عنها معهد واشنطن للأبحاث والدراسات وما سمعناه وشاهدناه في مونديال كأس العالم في قطر إلا خير برهان ودليل على اتساع الفجوة بين خيارات الشعوب العربية برفضها المطلق التعايش والقبول بـ "إسرائيل" كدولة طبيعية في المنطقة، وبين سلوك الأنظمة الرسمية المطبّعة لتوقيع اتفاقيات تطبيع مع "إسرائيل"، والسودان جزء من هذه الأنظمة القائمة بحكم الأمر الواقع في المنطقة.
الشعب السوداني كغيره من شعوب الدول التي طبّعت مع "إسرائيل"، لم يكن السودان الذي عُرف بمواقفه الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، والتي ظل يساندها أكثر من سبعين سنة، بحاجة إلى تنازل باهت عن مبادئ راسخة ومواقف مشرّفة وعلى رأسها احتضانه قمة اللاءات الثلاث قبل ستة وخمسين عاماً، وبالتالي فإن رهانات تحقيق مكاسب من توقيع أي اتفاقيات تطبيع مع "إسرائيل" ستكون رهانات سراب يعوّل عليها المجلس السيادي العسكري الذي يحكم السودان حالياً، أما اللاءات الثلاث ففعلياً ماتت في حسابات الأنظمة العربية التي هرولت وطبّعت مع "إسرائيل"، أما في حسابات الشعوب فرأيناها حيّة باقية من خلال كأس العالم في قطر.
يحاول بنيامين نتنياهو بإحياء التطبيع السوداني واستقبال الرئيس التشادي وافتتاح سفارة في تل أبيب، الهروب إلى الأمام وإنقاذ نفسه في خطوتين تشكّلان مسارين متوازيين في ظل مأزقه السياسي الحالي على ضوء التحديات الداخلية والمظاهرات التي تنادي بإسقاط حكومته وبعد فشله الأمني الكبير إثر تصاعد عمليات المقاومة في مدينة القدس والضفة الغربية المحتلة.
ربما مثل هذه الخطوات ستفرح نتنياهو قليلاً، لكن أحلامه بدفن القضية عبر "سلام اقتصادي عملي"، ستُدفن كما دُفنت "صفقة القرن" من قبل، ولا يدري أن هذه الخطوات لن تخرجه من مأزقه الداخلي ولا من مأزقه مع شعب استعاد بوصلته، والثابت في قضية التطبيع أو افتتاح هذه السفارات أنها لا تعبّر بأي حال من الأحوال عن حالة الشعوب العالمية والعربية والإسلامية المتعاطفة والمناصرة للقضية الفلسطينية.