تركيا على وشك غزو شمال سوريا.. ما العمل؟

يمتلك إردوغان مجموعة من الأوراق التي تتيح له هامشاً للمناورة لتحقيق أهدافه قبل موعد الانتخابات الرئاسية.

  • عاود إردوغان سياسة أسلافه بمسمياتهم المختلفة، وقاد حملة
    عاود إردوغان سياسة أسلافه بمسمياتهم المختلفة، وقاد حملة "ثورات الربيع العربي"، تحت مظلة الولايات المتحدة

تصاعدت حالة القلق لدى من تبقَّى من السوريين في الشمال السوري، بعد أن أفصح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن توجهاته، "باستكمال عملياته العسكرية في الشمال السوري، بعمق 30 كم"، ولم يكن هذا القلق مقتصراً على السوريين الكرد، بل امتد على مساحة الوطن السوري، مع الخوف من كارثة "استلاب لواء إسكندرون جديد".

تشكل المناطق الواقعة في هضبة الأناضول وامتداداتها، واقعاً جغرافياً ذا عمق تاريخي كبير، يساير مجمل الحضارات التي تتابعت على المنطقة، التي تشكل مركز العالم القديم، ومنبع حضارات العالم الأولى. ولعبت قساوة الجغرافيا الجبلية دوراً أساسياً في توجيه سياسات قاطني الهضبة المحاط أغلبها بالبحار، فكانت بلاد الشام السهلية هي البوابة الوحيدة لخروج سكان الأناضول من سجن الجغرافيا الحاكم لسياساتهم التوسعية، أياً كان طابع الدولة القائمة، سواء حثية أم بيزنطية أم سلجوقية أم عثمانية، وليس آخراً دولة إخوان تركية بقيادة حزب إردوغان.

لا تأتي سياسات أنقرة التوسعية من فراغ، على الرغم من تشكل الدول الحديثة، وخضوعها لميثاق الأمم المتحدة، وقانونها الدولي بالحفاظ على وحدة الدول وسيادتها على أراضيها، بل هي نتاج فعل الجغرافيا، وهي تتجلّى بمظهرها الأخير، بعد أن أغلقت أبواب الاتحاد الأوروبي في وجهها، رغم كل المحاولات التي بذلها مؤسس تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية للالتحاق بالغرب، وعمل خلفاؤه من بعده على متابعة نهجه، ولكنهم فشلوا جميعاً باختراق حاجز الصد الأوروبي، الذي لم يغادر ذكريات الغزو العثماني، ووصوله إلى ڤيينا.

عاود إردوغان سياسة أسلافه بمسمياتهم المختلفة، وقاد حملة "ثورات الربيع العربي"، تحت مظلة الولايات المتحدة، ووجد في ذلك فرصة لإنعاش الحلم الأناضولي المتجدد، على حساب الشعوب التي تشاركه المنطقة، للوصول إلى شمال أفريقيا عبر البوابة السورية، فأطلق تصريحه الشهير في أوائل عام 2011: "انتظروا تركيا عام 2023"، في إشارة إلى تغيير واقع المنطقة ككل، بتجديد الثوب العثماني الأخير.

ولكن هذا الحلم تحطم مع سقوط حكم محمد مرسي "الإخواني" في مصر، إثر قرار البنتاغون الأميركي بالعودة إلى الاعتماد على الأنظمة العسكرية، بعد الفشل الذريع في معركة القصير السورية، فتراجع إردوغان إلى حلم "إنجاز الميثاق الملِّي"، وخاصة بعد أن أدرك التعقيدات الشديدة المحيطة به. تعرض لمحاولة انقلاب عسكرية، بأمر من الإدارة الأميركية وتمويل الإمارات العربية المتحدة. فشلت المحاولة، ما جعله يعيد حساباته من جديد. أعاد التموضع بما يخدم الأطماع في الشمالين السوري والعراقي. سمحت له روسيا باحتلال جرابلس عام 2016، بسهولة ليعيد الكرَّة مرة ثانية باحتلال عفرين عام 2018، وبرضى أميركي كامل أيضاً. تلا ذلك عام 2019، احتلال المناطق الممتدة من تل أبيض وحتى رأس العين، بطول 100 كم، وعمق 30 كم، بعد أن أفسحت له الولايات المتحدة المجال، من خلال انسحابها من المناطق التي احتلتها عام 2015، وتسليمها له، وها هو الآن يسعى لاستكمال احتلال المناطق المتبقية من شمال سوريا في منبج، وعين العرب "عرب بينار"، ومناطق الدرباسية وعامودا والقامشلي والمالكية، بما يتيح له السيطرة على كامل الشمال، بحجة "تأمين الأمن القومي لتركيا، بمحاربته لإرهاب PKK، وداعش" التي تمثل ذريعة لكل من تركيا والولايات المتحدة، المسؤولتين عن صناعتها وديمومتها.

والواقع إن إردوغان يمتلك مجموعة من الأوراق، التي تتيح له هامشاً واسعاً للمناورة، لتحقيق أهدافه قبل موعد الانتخابات الرئاسية التركية عام 2023، وهي التي تترافق مع الترويج "لانتهاء مفاعيل معاهدة لوزان 1923"، على الرغم من عدم وجود أي نص يؤكد ذلك. لكن هامش المناورة الدولية ما زال يتيح له الحركة، وخاصةً بعد الحرب في أوكرانيا، واحتياج الولايات المتحدة لدوره "في مواجهة روسيا في أوكرانيا، وحرمان موسكو من الممرات البحرية والجوية نحو سوريا والبحر المتوسط"، وما يعنيه ذلك من صعوبات في تأمين السلاح والذخائر، بالإضافة إلى الصمت الروسي تجاه السياسات التركية المعادية في أوكرانيا وسوريا، نتيجةً لحسابات مؤجلة ربما لما بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا.

ولا يقتصر الأمر على الموقف الأميركي المتواطئ مع تركيا، ولا على إحجام بعض حلفاء دمشق عن الوقوف في وجه أطماع تركيا الآن، وعدم قدرة الدولة السورية على مواجهتها وحدها، بل يمتد إلى حجم النفوذ التركي على طيف واسع من السوريين، الذين تغويهم التجربة التركية، مقابل الأوضاع السورية المُنهكة، وتدفعهم أوهامهم بقرب سقوط دمشق، إلى تقبل سياسات أنقرة، خاصة في المناطق الشمالية، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان، مراجعة هؤلاء لموقفهم من جهة، بالإضافة إلى زيادة صعوبات الاستمرار بحياة طبيعية في حال عودتهم، لأسباب داخلية وخارجية، وقد وصل عدد السوريين الذين تزعم أنقرة أنها تقدم لهم الدعم، وفقاً لإدعاءات إردوغان إلى نحو 9 مليون سوري، وهو ما يعني، في حال صدقه، 40 % من السوريين.

إن الأمر الذي يعمل عليه الرئيس التركي، هو اندفاع نحو الأمام، هرباً من التهديدات الداخلية، اقتصادياً أو سياسياً، لكنه في الواقع يشكل خطراً مباشراً على سوريا، بالإضافة إلى العراق الذي يشكل أولوية له بعد نجاحه في سوريا، ذلك أن الحلم التركي يشمل احتلال شمال العراق، وصولاً إلى كركوك وخانقين، والأميركيون لا يعترضون على ذلك، طالما أنه يَصْب ضمن استراتيجيتهم في غرب آسيا.

تشكل تركيا الأناضول واقعاً جغرافياً وتاريخياً لا مفر منه، وهي ستبقى بموقع التهديد لبوابتها الجنوبية في سوريا، بالإضافة إلى العراق، ولا يمكن للبلدين المُهددين منها مواجهتها بشكل منفرد، لكنهما مع بعضهما البعض يمكنهما أن يشكلا ركيزة توازن مع تركيا من جهة، وعنصر تواصل على مستوى مركز العالم القديم من جهة ثانية، وهو تواصل مفقود حالياً رغم ضرورته الوجودية القصوى. والبلدان يمكنهما العمل جدياً، كون المشروع التركي المغطى أميركياً، يشكل تهديداً حقيقياً لكليهما ويدفع لانهيار كل الإنجازات التي تحققت خلال الأعوام 11 السابقة.

وأما ما يتعلق في الداخل السوري، فإن الأمر يتطلب نظرة حقيقية صادقة ومختلفة من قبل السوريين الكرد من جهة، ومن دمشق من جهة أخرى: فهو يتطلب من قادة الكرد إعادة ترتيب أولوياتهم، على قاعدة "أولوية الوجود مُقَدمة على أي مشروع سياسي"، خاصةً بعد أن أثبتت العلاقة مع الأميركيين "أعداء كل شعوب المنطقة"، بأنها "كارثة على كل من يراهن عليهم"، وتجاربهم أي الكرد بالذات مع الأميركيين، "تسببت بكارثة عفرين، التي لم تمنع واشنطن حدوثها، وكارثة تل أبيض-رأس العين، التي يتحملون مسؤوليتها المباشرة"، والأمر يتطلب "نزع ذرائع الاحتلال التركي، بانتشار الجيش السوري على كامل الحدود المتبقية، وبشكل حقيقي وليس رمزياً"، وعودة الانفتاح على دمشق "بشكل مباشر، بعيداً عن الأميركيين"، وفي الوقت ذاته، من المفترض أن تتعاطى دمشق معهم بطريقة تمنحهم مكاسب على "مستوى الحقوق"، تتعلق بالإدارة "والحقوق الثقافية"، بما يجعلهم فاعلين لمواجهة التهديدات التركية، من موقع الشراكة الوطنية السورية الكاملة والصادقة.

بالنهاية، فإن تركيا لن تتخلى عن مشاريعها التوسعية، لتجعل من نفسها قطباً دولياً، ولو على حساب كل شعوب المنطقة ودولها ، ولا حل معها إلا بدفعها نحو سياسات من خارج أحلام الهيمنة والتوسع، والانتقال نحو صيغة للتعاون الإقليمي، وفق معادلة رابح-رابح.