ترامب ونقل الصراع إلى القطب الشمالي وخليج المكسيك

هل سيؤدي اهتمام أميركا والناتو بخليج المكسيك والمنطقة القطبية الشمالية إلى بعض الإهمال للشرق العربي وآسيا الوسطى؟

  • تنظر الولايات المتحدة إلى غرينلاند كجزيرة لها أهميتها بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي.
    تنظر الولايات المتحدة إلى غرينلاند كجزيرة لها أهميتها بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي.

لم يكن ترامب الرئيس الأميركي الأول الذي يسعى للسيطرة على كل من كندا وجزيرة غرينلاند وحتى المكسيك. ربما يكون هو الأكثر وضوحاً في مشروعاته الاستعمارية عن رؤساء سابقين، لكن الحقيقة أن مشروعاته هي مشروعات أميركية منذ فترات طويلة، يمتد بعضها إلى عام 1812 م، عندما شن الأميركيون هجوماً فاشلاً على المستعمرات البريطانية في كندا، ورد عليه البريطانيون بهجوم فاشل آخر.

 وعلى الرغم من أن الظروف الحالية ربما لا تدعم الرغبة الأميركية في هذا التوسع، فإن هذه الأهداف استمرت في الذهن الأميركي. وبينما كانت تجارة الفراء والحصار البريطاني للشواطئ الفرنسية، والذي أثار استياء الأميركيين نتيجة قطع تجارتهم مع فرنسا، من أسباب الحرب ضد كندا عام 1812، كما كانت رغبة الأميركيين في التوسع لمصلحة زراعة القطن في أراضي تكساس وكاليفورنيا ونيومكسيكو التابعة للمكسيك وقتها سبب الحرب التوسعية ضد المكسيك في 1846-1848، فإن الرغبة في التوسع الأميركي الجديد لها أسباب مغايرة.

 في الوقت الحالي، من الواضح أن الدوافع مرتبطة بالأمن القومي الأميركي ذاته والصراع على مصادر الطاقة، سواء الموجودة في خليج المكسيك، أو تلك التي ظهرت في سواحل المحيط القطبي الشمالي، نتيجة للاحتباس الحراري والتغيرات المناخية، التي أدت إلى إذابة قدر كبير من الجليد، وهناك توقعات بأن المحيط الشمالي قد يخلو من الجليد خلال فصل الصيف قبل نهاية ثلاثينيات هذا القرن.

ومن هنا، فإن المنطقتين، خليج المكسيك والقطبية الشمالية، مرشحتان بدرجة أكبر للعسكرة والصراع في الفترة المقبلة، بحيث إن فكرة السيطرة عليها لم تراود الأميركيين فقط، وإنما راودت الروس والصينيين أيضاً.

 فيما يتعلق بخليج المكسيك، فمع كونه من أكثر المناطق الغنية بكل من النفط والغاز الطبيعي، إلى درجة أنه يزود الولايات المتحدة بما نسبته 15% من احتياجاتها من النفط و2% من الغاز الطبيعي، وكونه يُعَد من أكثر مصائد الأسماك إنتاجاً في العالم، فإن الولايات المتحدة باتت تنظر بقلق إلى خطط رئيسة المكسيك المنتخَبة في حزيران/يونيو من العام الماضي، كلوديا شينباوم، ومشروعاتها، بقلق بالغ، بحيث أكدت التزامها وعودها الانتخابية بخصوص استقلال السياسة الخارجية لبلادها عن أميركا، كرد فعل على مساعي الولايات المتحدة للتدخل في الانتخابات المكسيكية والتأثير في نتائجها، الأمر الذي دفعها إلى علاقات قوية بالصين، التي بدأت بدورها تضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد المكسيكي، بالإضافة إلى التوجه إلى روسيا في محاولة لفرض الندية على علاقات بلادها بالأميركيين.

ومن الواضح أن الأميركيين بدورهم لن يتقبلوا هذه الفكرة بسهولة، ومن دون صدام، وخصوصاً أن الثنائي الصيني/الروسي يقترب جداً في هذه المرة من حدودهم المباشرة.

وإذا كان التوغل الصيني/الروسي في المكسيك ما زال في بداياته، فالأمر مغاير بالنسبة إلى منطقة القطب الشمالي، والتي تضم إلى جانب روسيا وأميركا الدول: فنلندا، النرويج، الدنمارك وكندا، فهي منطقة تشغل 6% من مساحة الأرض، وتمتد على مساحة 21 مليون كيلومتر، وشهدت الفترة من عام 2012 حتى عام 2022 انحسار الجليد إلى 3.74 ملايين كيلومتر، الأمر الذي سمح بعمليات التنقيب عن البترول والغاز الطبيعي، بحيث يحتوي القطب الشمالي على 13% من احتياطيات النفط غير المكتشف، بما يقدر بـ 90 مليار برميل من النفط، و30% من احتياطي الغاز الطبيعي غير المكتشف، أي ما يفوق 1.669 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، و44 مليار برميل من الغاز الطبيعي المسال، وهذه الثروات تتركز في 84% من المناطق القريبة من الجرف القاري للدول المحيطة.

استفادت كل من كندا وروسيا من التنقيب عن مصادر الطاقة في القطب الشمالي، بحيث تستخرج كندا الغاز والبترول من بحر بيوفورت، شمال ألاسكا، بينما تستخرج روسيا النفط والغاز من شرقي سيبيريا وبحر بارنتس، وبلغت اكتشافات عمليات التنقيب التي قامت بها الدولتان ما يفوق 400 حقل للنفط والغاز.

 لا يتوقف الأمر عند الطاقة فقط، وإنما يمتد إلى المعادن الثمينة التي تُستخدم في تصنيع السيارات الكهربائية وأجهزة الطاقة المتجددة، كالليثيوم والغرافيت، بالإضافة إلى عدد من المعادن الأخرى، كالحديد والزنك والذهب والفضة والفحم والنحاس واليورانيوم والأحجار الكريمة، وهي معادن تحتكر الصين السيطرة عليها بنسبة 90%، الأمر الذي يمنحها ورقة ضغط تستخدمها في مواجهة القوى الغربية والولايات المتحدة الأميركية، عبر زيادة القيود على هذه الصادرات ضمن الحرب التجارية مع أميركا. ومن هنا ترى هذه الدول أن السيطرة على منطقة القطب الشمالي كفيلة بإحراق أوراق الضغط لدى كل من روسيا والصين معاً.

 من ناحية أخرى، أدى تراجع الجليد في هذه المنطقة إلى ظهور طريق جديد للملاحة بين شرقي آسيا وكل من القارتين الأوروبية والأميركية، يوفر الوقت بنسبة 40% أقل من الوقت المستغرق في المرور عبر قناة السويس في مصر، وهو الأمر الذي لم تغفل عنه كل من الصين وروسيا معاً.

ففي حزيران/يونيو 2018 وقع كل من بنك التنمية والشؤون الاقتصادية الخارجية الروسي وبنك التنمية الصيني اتفاقية تتيح إمكان توفير ما يزيد على 9.5 مليارات دولار من بنك التنمية الصيني لخلق آلية لتمويل عمليات التكامل المشتركة بين البلدين في منطقة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وكذلك في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، بحيث سيتم تمويل مشاريع تطوير الممر الشمالي الشرقي، وهو الطريق الملاحي الممتد على طول المحيط القطبي الشمالي.

وكانت هذه الاتفاقية تتويجاً للرؤية الصينية، التي ظهرت في حزيران/يونيو 2017، لتطوير طريق بحري بين الصين وغرب أوروبا، وبعدها في يناير 2018 نشرت الحكومة الصينية وثيقة المعبرة عن تصوراتها الرسمية بهذا الشأن حيث قامت بإدراج المنطقة ضمن مبادرة الحزام والطريق.

 على أرض المنطقة القطبية الشمالية تبدو روسيا، التي تمتلك أكبر خط ساحلي على المحيط القطبي الشمالي، هي الحائز الأكبر للثروة، بحيث تمتلك 41% من احتياطيات النفط والغاز الطبيعي، بينما تمتلك أميركا 28% عبر ألاسكا، ثم كندا 9%، الدنمارك 8%، والنرويج 4%. ومن الواضح أن دول المنطقة لم تكن راغبة في الدخول في صراعات في البداية.

ففي عام 1996 تم إنشاء مجلس المنطقة القطبية الشمالية بموجب إعلان أوتاوا، الذي ضم كلاً من: روسيا، السويد، كندا، الدنمارك، الولايات المتحدة الأميركية، فنلندا، آيسلندا والنرويج. وتم منح عدد من المنظمات الممثلة للسكان الأصليين صفة مراقب دائم، ولاحقاً مُنح بعض الدول غير القطبية الشمالية صفة مراقب وهي: ألمانيا، المملكة المتحدة، هولندا وبولندا، عام 1998، وفرنسا، عام 2000، وإسبانيا، عام 2006، والصين، اليابان، الهند، كوريا ج، سنغافورة وإيطاليا، عام 2013، سويسرا، عام 2017.

وعلى الرغم من أن الهدف من تأسيس هذا المجلس هو التعاون بين دول المنطقة، من دون تناول القضايا العسكرية والسيادية، فإن حرص مختلف الدول على الانضمام إليه، ولو بصفة مراقب، يشير إلى حجم الصراع المنتظر اشتعاله تجاه هذه المنطقة، والذي تجسد في حالة التسابق على عسكرتها في الفترة الأخيرة، نتيجة عدم حسم الخلافات الحدودية فيما يتعلق بالجروف القارية بين الدول، كالخلافات بين روسيا وأميركا، وبين روسيا والنرويج، وبين أميركا وكندا، وبين روسيا وكندا، وزاد في خطورة الأمر اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، وقيام دول مجلس المنطقة القطبية الشمالية بتعليق عمل روسيا في المجلس، كما أن انضمام كل من فنلندا والسويد إلى الناتو عامي 2023 و2024 على التوالي خلق وضعاً في غير مصلحة روسيا في المجلس، بحيث سيتوجب عليها العمل مع 7 دول أعضاء في الناتو في المنطقة، الأمر الذي ساهم في زيادة الصراع واتساع الخلافات الحدودية بين دولها، وبالتالي تزايد الوجود العسكري.

 إذاً، من الممكن فهم الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي الجديد إلى طرح فكرة الحصول على كل من كندا وغرينلاند (تابعة الدنمارك) في هذا التوقيت. وبالنسبة إلى الأخيرة، فهي ليست المرة الأولى التي تعرض فيها الولايات المتحدة شراء جزيرة غرينلاند، وبدأت أُولى المحاولات في القرن التاسع عشر عام 1868، واستمرت حتى فترة رئاسة هاري ترومان في عام 1946، بل إن ترامب عرض خلال ولايته الأولى شراء الجزيرة من الدنمارك، ويبرر الرئيس الأميركي مطالبه بأن الناتج المحلي لبلاده سوف يرتفع إلى 30 تريليون دولار، لكن الأمر لا يتوقف فقط على الاقتصاد.

تنظر الولايات المتحدة إلى غرينلاند، على وجه الخصوص، كجزيرة لها أهميتها بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي، بحيث تقع الجزيرة على الطريق الأقصر بين أوروبا وأميركا الشمالية.

وبالتالي، فهي تمثل أهمية استراتيجية لإنذار الولايات المتحدة من الصواريخ الباليستية والغواصات الروسية، وخصوصاً بعد أن بدأت الأخيرة استخدام المنطقة في تجارب صواريخها فرط الصوتية واختبار قدراتها العسكرية، كما أن طائراتها تحلق بصورة مكثفة وممنهجة.

وبصورة عامة، تمتلك روسيا في المنطقة 40 كاسحة جليد و34 غواصة بحرية، إضافة إلى الأسطول الشمالي المزود بأحدث السفن الروسية، وتشكيلٍ من أسلحة مشتركة، ولها سبع قواعد عسكرية ومطارات، وتحتضن المنطقة ثلث الصواريخ النووية الروسية.

 ولا يقتصر الأمر على تزايد النشاط الروسي، وإنما ينضم إليه كذلك النشاط العسكري الصيني على نحو يدعم فكرة وجود تحالف متزايد بينهما ونشاط مشترك في المنطقة.

وبرز هذا التحالف في الصراع الذي نشب بين الولايات المتحدة الأميركية والدولتين بشأن مطالبة الأولى بضم نحو مليون كيلومتر مربع إلى جرفها القاري في بحر بيرنغ والمحيط الهادي والمحيط الأطلسي وخليج المكسيك، خلال جلسة للسلطة الدولية لقاع البحر في كينغستون في جامايكا عام 2024، على الرغم من أنها غير موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، وهو ما توافقت روسيا والصين على رفضه، الأمر الذي دفع البنتاغون إلى التحذير من هذا التحالف المتزايد بينهما، والذي ساهم في ظهور قاذفات روسية وصينية تحلق معاً قبالة سواحل ألاسكا الأميركية للمرة الأولى.

ولعل هذا الموقف الروسي/الصيني يمثل رداً على تجاهل السويد وفنلندا للتحذير الروسي من انضمامهما إلى الناتو، بحيث أصبح بحر البلطيق بالفعل بحيرة خاصة بهذا الحلف، الأمر الذي يدعم وجوده عند الحدود الروسية. في المقابل، تمتلك الولايات المتحدة قاعدة ثول في غرينلاند، وكاسحة جليدية واحدة.

 من ناحية أخرى، فإن انضمام كل من كندا (الخاضعة حتى الآن للتاج البريطاني)، وغرينلاند (الخاضعة للتاج الدنماركي) إلى أميركا، يعني أن الأخيرة ستصبح مسيطرة على 45% من القطب الشمالي والثروات التي يحويها، وهو ما سيجعل لها الكلمة الأولى في مواجهة الروس.

إن المعطيات السابقة ربما تشير إلى مواجهة جديدة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها ضد الثلاثي الرافض للهيمنة الأميركية في جهة أخرى من العالم، ومن الواضح أن هذه الجهة سوف تكون الأكثر أهمية بعد أن تعرضت للإهمال سابقاً من جانب الأميركيين عقب تفكك الاتحاد السوفياتي تبعاً لنظرية مستشار الأمن القومي زيبغنيو بريجنسكي بشأن آسيا الوسطى. ومع انتباه الأميركيين، متأخرين، لهذا الخطأ، سعوا، في فترة رئاسة جو بايدن، تبني استراتيجيا جديدة لمنطقة القطب الشمالي تمتد حتى عام 2032، وتقوم على: تعزيز الوجود العسكري الأميركي، وتحديث الدفاعات الجوية في المنطقة.

كما أبرمت أميركا اتفاقيات دفاع ثنائية مع النرويج، وتسعى لتطوير وجودها العسكري في غرينلاند وآيسلندا، إضافة إلى تزايد التدريبات العسكرية بينها وبين النرويج وفنلندا والسويد.

 لكن يبقى التساؤل: هل سيؤدي اهتمام أميركا والناتو بخليج المكسيك والمنطقة القطبية الشمالية إلى بعض الإهمال للشرق العربي وآسيا الوسطى؟

 من المؤكد أنه لو صدقت التوقعات بشأن القطب الشمالي بخصوص وضع الثروات والممرات البحرية، فإن أهمية الشرق العربي وأهمية الملاحة في المحيط الهندي والبحرين الأحمر والمتوسط، بالنسبة إلى السياسة الأميركية، سوف تتراجعان كثيراً، وخصوصاً أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بالحصول على الثروات، وإنما بالأمن الأميركي ذاته، والذي صار مهدَّداً عند حدوده القريبة. كما أن سيطرة الأميركيين على المنطقتين من شأنها أن تؤدي، إلى حد كبير، إلى تقليم الأظافر الصينية والروسية في مواجهة الهيمنة الأميركية. 

 ومع ذلك، من المؤكد أن الأميركيين لن يمكنهم إهمال الأوضاع في الشرق العربي والمحيط الهندي بصورة كاملة في مواجهة المساعي التي يقوم بها الثلاثي الرافض للهيمنة (روسيا/الصين/إيران)، وخصوصاً بعد أن أثبتت تجربة طوفان الأقصى عجز الكيان الصهيوني عن حسم المواجهات بصورة منفردة في مواجهة المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية، كما تجلى بوضوح مدى ضعف الداخل الصهيوني وهشاشته في مواجهة الصواريخ الإيرانية، الأمر الذي أجبر الولايات المتحدة على اللجوء إلى فرض وقف لإطلاق النار على الكيان الصهيوني فرضاً، وقبول شروط المقاومة.

ما يمكن أن تسعى له أميركا هو إقامة قَدْر من التوازن في الشرق العربي والمحيط الهندي، تحاول تحقيقه منذ فترة، عبر دعم النفوذ الهندي المعادي للصين في المحيط الهندي وشرقي أفريقيا والخليج العربي، وإقامة تحالف رباعي يضمها، إضافة إلى كل من الهند وأستراليا واليابان، في مواجهة الصعود الصيني، وهو ما قد تسعى لتحقيقه في الشرق العربي عن طريق المشروعات التركية في العراق والشام (سوريا، لبنان وفلسطين)، وخصوصاً بعد أن اتضح عدم قدرة الدول الخليجية على التعامل بفعّالية مع القضايا المتعلقة بالشرق العربي في سوريا واليمن سابقاً.

 أما آسيا الوسطى، فهناك سعي أميركي منذ فترة لدعم التطلعات القومية الهندية إلى تأسيس هند كبرى، تمتد من إيران إلى الصين، وهو ما يتعلق بجنوبي القارة الآسيوية، بينما يدخل وسط القارة ضمن المشروع القومي التركي لتأسيس ما يسمى الأمة التركية، والذي بدأت فعّاليته عملياً بالدعم التركي لانتصار أذربيجان على أرمينيا واستعادة ممر زانجزور، وهو الانتصار الذي كان موجَّهاً ضد إيران في الأساس.