تجربة الإعلام الملتزم: الميادين نموذجاً
إن مهمة الإعلام الملتزم، في العشرية القادمة، ستختلف عما كانت عليه في العشرية السابقة، فالتطور التقني والتكنولوجي، وتطور الذكاء الاصطناعي، ستجعل مهمة "نقل الواقع كما هو" أصعب مما كانت عليه في السابق.
عشر سنوات مضت من عمر تجربة الميادين الإعلامية التي انطلقت بإمكانيات متواضعة، وفي محيط عربي تتلاطم أمواجه ويتقاذفه المدّ والجزر، ويعيش لحظات استثنائية من الانتفاضات والتدخلات الإقليمية والدولية التي ساهمت في تعميق الانقسامات المجتمعية، وأطاحت العديد من الرموز، وكسرت العديد من المحرمات... عشر سنوات، استطاعت خلالها الميادين اختراق الوعي العربي لما هو أبعد من السياسة كـ"فن الممكن" إلى "صناعة المستحيل".
إعلامياً، وعدت الميادين منذ لحظة انطلاقتها الأولى، بنقل الواقع كما هو، وأكدت أن أهدافها ليست "التطبيل لحاكم أو نظام"، بل كان الالتزام منذ البداية بـ "حق الشعوب في التعبير الحر وتحديد خياراتها الوطنية الداخلية". وبالفعل، استطاعت أن تسلط الضوء على الكثير من المشاهد المغيّبة من السردية السائدة في الإعلامين العربي والأجنبي. أما الأهم، فكان إعلانها أنها لن تكون "إطاراً لأي تمييز عنصري وتفرقة عرقية، وتقسيم ديني وتحريض طائفي ومذهبي"، وقد نجحت في ذلك، فأعطت مساحة واسعة لاختلاف الآراء والأعراق والمذاهب في العالم العربي.
- فلسطين- البوصلة:
عشر سنوات مرّت على تجربة الميادين، قد يكون من المناسب تقييم التجربة السياسية لإعلام التزم قضايا الأمة العربية، ووضع بوصلته الأساسية-القضية الفلسطينية، التي رأتها الميادين قضية تحرر وطني، وأعلنت التزامها بها انطلاقاً من "إيمانها بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال"، وتعهدت "أن يكون لملف الأسرى داخل السجون الإسرائيلية اهتمام مستمر".
نجاح الميادين يدحض ما راهن عليه الإسرائيلي، وحاول الإعلام الغربي تغييبه خلال تسويقه لحقّ (بعض) الشعوب في تقرير مصيرها. نجاح الميادين يكسر الرهان الإسرائيلي على "موت" القضية الفلسطينية وغيابها، ونذكر في هذا الإطار، أنه في الخمسينيات من القرن العشرين، تقدم صحافيان غربيان: أحدهما بريطاني والآخر أميركي، بسؤال إلى الرئيس الإسرائيلي آنذاك حاييم وايزمان: كيف تتصور حلاً للقضية الفلسطينية؟ لم يأخذه الكثير من التفكير ليجيب: "هناك قضايا لا حلّ لها. إنها تشيخ وتبلى شيئاً فشيئاً".
إن نبض الانتفاضة الدائمة لفلسطين، والذي واكبته الميادين لحظة بلحظة، يؤكد أن فلسطين تزهر في قلوب العرب كل يوم، وتنمو القدس في حياتهم شجرة باسقة بجذور راسخة، يصحّ فيها قول المطران جورج خضر الذي يكتب عن فلسطين كما يكتب العاشق عن الحب، فيقول: "لا فاصل واضحاً بين الزمني والروحي عندما تصير المدينة جلجلة".... "صحيح أن فلسطين المدعوة أكبر من الأرض، لأنها حدث روحي كبير... ولكن هذا لا يكفيني، فأنا مع هؤلاء القوم في مظلوميتهم، ومع القدس في نورها".
- مساحة تلاقٍ وحوار حضاري:
أما ضمن الإطار السياسي الاستراتيجي الأوسع، فقد نجحت الميادين نسبياً في تطبيق ما وعدت به من "كونها مساحة تلاقٍ وحوار وتفاعل... تحرص على تضامن العالم الإسلامي والتواصل مع عالم الجنوب من موقع الانتماء.... وتشجع حوار الثقافات والحضارات، كونها منبراً للحوار مع الغرب الأوروبي والأميركي".
لا شكّ في أن تطورات دولية عدّة حصلت منذ تأسيس الميادين ولغاية اليوم... تطورات كبرى، باتت تفرض نفسها على الإعلام والمجتمع وتفترض نظرة مختلفة لمساحة التلاقي بين تلك التقسيمات.
لقد بدّلت عشر سنوات من التطور نظرتنا إلى تقسيمات شمال/جنوب، وشرق/غرب، لأنها تقسيمات فوق-اجتماعية، فوق -سياسية، وفوق -وطنية. لقد خلطت جائحة كورونا وبعدها الحرب الروسية-الأوكرانية الأوراق داخل الغرب نفسه، فتقلصت الطبقات الوسطى وزادت الفجوات لمصلحة قوى مركزية كبرى تلاقت مصالحها مع قوى مركزية داخل عوالم الجنوب، فتشكّلت بينها شراكات عابرة للحدود.
على عتبة حروب كبرى، نجد أنه في حين كانت قوى رأس المال والشركات العملاقة الكبرى، عشية الحربين العالميتين الأولى والثانية، تعمل للترويج للتوسّع في الخارج لمصلحة التجارة وفتح الأسواق لمصلحة الدول الاستعمارية نفسها، باتت اليوم تعمل لأجندات خاصة تتخطى أجندات الدول القومية، وانقلبت الأدوار، فبات القرار السياسي في خدمة الشركات والقوى الرأسمالية العملاقة، بعدما كانت هي نفسها أدوات في خدمة الإمبراطوريات.
عشر سنوات تبدلت خلالها أولويات الشعوب، وتباينت خياراتها داخل الغرب نفسه، من قطاع زراعي يتعرض للتضييق من قوى كبرى رأسمالية في المركز، إلى قطاع صناعي يتراجع ويهاجر -كما الطيورالمهاجرة -إلى الشرق، إلى موجات شعبوية إلى أقصى اليمين واليسار ستطيح القوى السياسية التقليدية، ولو بعد حين.
إن الحوار بين الشرق والغرب وتأمين مساحة لتفاعل حضاري بين الشمال والجنوب، يفترض بنا كباحثين وإعلاميين أن نغوص في مدى استمرار مفهوم الغرب كوحدة متكاملة، ومدى صوابية الصورة الإعلامية عن وحدة دول الجنوب أو مفهوم الشرق بحد ذاته:
لقد بات عالم الجنوب، عوالم متعددة، وداخل تلك العوالم عوالم تتباين وتتلاقى حضارياً وسياسياً وثقافياً ومصلحياً. الجنوب كما نراه من موقع الانتماء، والغرب كما نراه من موقع "الآخر"، مصطلحان يحتاجان إلى تفكيك قبل الولوج في حوار حضاري حقيقي، وتفاعل مجتمعي يحاكي العصر والمستقبل.
إن مهمة الإعلام الملتزم، في العشرية القادمة، ستختلف عما كانت عليه في العشرية السابقة، فالتطور التقني والتكنولوجي، وتطور الذكاء الاصطناعي، والقدرة على محاكاة الأصوات والوجوه والأشخاص عبر تقنيات بصرية ستجعل مهمة "نقل الواقع كما هو" أصعب مما كانت عليه في السابق....هي مهمة صعبة، ولكن صناعة المستحيل التي قامت بها الميادين في السابق، تجعلها أهلاً للثقة والإيمان في قدرتها على رسم المستقبل وصناعته.