بين غزة والدونباس.. عالم جديد يتخلّق
عندما توضع المعركة في غزة ضمن السياق الأممي تتضح على الفور الأسباب التي تحرّض العواصم الغربية على الالتفاف حول "إسرائيل"، كما يتضح من جانب آخر حجم المُنجز الذي يصنعه ابن كتائب عز الدين القسام.
في عام 2014، قادت المخابرات الأميركية، بدعم من السلطات الإنكليزية، مجموعة من الحركات الليبرالية داخل أوكرانيا بهدف إسقاط حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. كان يانوكوفيتش منتخباً بإرادة حرة من أبناء شعبه قبل هذا التاريخ بأربعة أعوام، ويملك علاقات جيدة مع موسكو، ويسعى لتحويل بلاده إلى جسر لعبور الروس باتجاه أوروبا والعكس، فيُنجز بهذا المخطط جُملة من المصالح المشتركة.
تؤمن الـ"سي آي إيه" بأن تغريد القارة العجوز خارج النفوذ الأميركي يعني بداية النهاية لحلف شمال الأطلسي، ما يُفضي إلى خسارة واشنطن نصف نفوذها على العالم تقريباً، بالتالي كان عليها أن تقضي على حكم يانوكوفيتش ورجاله، ثم تحوّل أوكرانيا كلها إلى كتلة من اللهب على حدود روسيا الغربية، تعوق أي تواصل لموسكو مع غرب أوروبا.
بادرت أميركا إلى صناعة "ثورتها الملونة" في كييف، وانتهزت اعتراض السلطات الأوكرانية على تحكّم الاتحاد الأوروبي وتدخلاته السياسية والاقتصادية في مقابل تعزيز التعاون مع موسكو التي كانت على استعداد لتقديم 15 مليار دولار بالإضافة إلى أسعار غاز أرخص، فأشعلت شرارة الاحتجاجات في "ميدان الاستقلال"، والتي لم تكن موجهة ضد السلطات المحلية بقدر ما كانت موجهة ضد فلاديمير بوتين ذاته.
هنا، ظهرت منطقة الدونباس على خارطة السياسة الدولية، كمنطقة في شرق أوكرانيا، بالقرب من الحدود الروسية، أعلن أهلها اعتراضهم على غزو الأميركيين السياسي لأوكرانيا (والذي تطور إلى عسكري لاحقاً)، بذريعة "تحريرهم" من العلاقة مع روسيا، التي يجمعهم بها التاريخ والجوار الجغرافي والأصول المشتركة وفوق كل ذلك، اللغة.
تمخضت التفاعلات في الدونباس عن ميلاد جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك، ولأعوام عدة لاحقة، حتى اعتراف موسكو بهما ثم التدخل العسكري في شباط/فبراير 2022، ستتعرض هاتان الجمهوريتان لصور العنف كافة على أيدي المجموعات النازية المدعومة من نظام الحكم الجديد في كييف، والذي خلف يانوكوفيتش وحظي بتأييد واشنطن و"تل أبيب".
لكنّ العجيب هنا، أن تلك المجموعات "القومية المتطرفة" التي ارتكبت جرائم حرب ضد أبناء الدونباس، قد استقبلت دعماً من تنظيمات سلفية جهادية، تمتد جذورها إلى منطقة القوقاز وحارب بعضها ضد الجيش السوري على مدار العقد الماضي، بمعنى آخر فهي تملك ثأراً مع الروس وحلفائهم، أو بمعنى أدق فهي تحارب حيث يكون للبيت الأبيض مصلحة.
كان لتمدد روسيا عسكرياً باتجاه الشرق نحو أوكرانيا، مبرراته الإنسانية لإنقاذ السكان الذين يتعرّضون للأذى لرفضهم نظام الحكم الجديد وانشقاقهم عنه، كما له مبرراته السياسية لمنع وصول الآليات الحربية الأميركية حتى حدوده الغربية، وهو أمر كان سيعقب انضواء كييف تحت لواء حلف "الناتو".
لكن، بعيداً عن كلّ ذلك، مثّل وثبة للأمام فسّرت أحلام شعوب العالمين الثاني والثالث الطامحة لظهور قطب عسكري جديد قادر على تحدي الإرادة الغربية.
غزّة في قلب العالم
كما لم يعد أحد ينظر إلى التفاعلات التي نجمت عن رفض أبناء الدونباس الخضوع لحكم "الناتو" باعتبارها شأناً أوكرانياً أو حتى يخص أوروبا وحدها، لم يعد أحد يرى ما يجري على الأراضي الفلسطينية عامة وبالأخص في قطاع غزة باعتباره شأناً محلياً أو يعني العرب والشرق أوسطيين وحدهم، بل بات الجميع ينظر إلى كل تلك الأحداث باعتبارها تمثّل حلقات ضمن صراع دولي أكبر، سيتمخّض عنه نموذج عالمي جديد بشرائع سياسية مختلفة.
يدرك قادة "إسرائيل" وضع كيانهم ضمن تلك المعادلة الدولية، وأشدّ ما يدلّ على ذلك هو رواج الخطاب الذي يرد الكيان الإسرائيلي إلى "الحاضنة الغربية" كلما حاصرت زنود المقاومة أعناق المستوطنين، وهو جانب أيديولوجي راسخ بعمق داخل "المجتمع الإسرائيلي" ويطغى على أي عقيدة توراتية أو مزاعم قومية، إذ يؤمن ساسة الاحتلال أن الكيان منذ تأسيسه بدعم غربي وإلى اليوم، يمثل نموذجاً مصغراً لما كانت عليه أوروبا في نهايات القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ 20، تم نسخه ولصقه في الأراضي العربية، ليلعب دوره كقاعدة لخدمة المصالح الأميركية والأوروبية.
في الخامس من كانون الأول/ديسمبر، أعلنها رئيس "دولة" الاحتلال إسحاق هرتسوغ بجلاءٍ ووضوح في تصريحاته لـمحطة "MSNBC" الأميركية، "أن الحرب في غزة ليست بين إسرائيل وحماس فقط بل هي حرب لإنقاذ الحضارة الغربية"، وهذا يتماشى بطبيعة الحال مع الدعم العسكري والسياسي والدعائي الذي تقدمه مختلف الأنظمة الغربية إلى "تل أبيب" على مدار الأسابيع الماضية.
لا يدرك العرب مجتمعين حقيقة "إسرائيل" كامتداد للاستعمار الغربي، وهذا ما يجرّ بعض زعمائهم إلى قصور الحكم في أوروبا طالبين استعادة بعض الحق الفلسطيني المسلوب، وهو مسار هزلي بطبيعة الحال، وحاصله صفر مضروباً بأصفار، وهو أحد الأسباب الرئيسية لضياع القضية طوال تلك العقود، وكاد أن يؤدي إلى ذبولها لولا صلابة إرادة المقاومين من أبناء الشعب الفلسطيني والدعم الذي استقبلوه من محور المقاومة.
تُحيل تلك الحقائق كافة إلى أهم ما يُميّز الأحداث منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو تعدد الساحات التي لم توجه سلاحها إلى الاحتلال الإسرائيلي وحده، بل إلى العدو الأميركي قبله، وهذا يكشف عن أصالة الرؤية التي تمتلكها قيادات محور المقاومة، وعن وعيها بجوهر الصراع العالمي وقدرتها على النفاذ إلى جوهره.
فبعد أسبوع من "طوفان الأقصى"، كانت المقاومة الإسلامية في العراق تنفذ عشرات الهجمات على القواعد الأميركية في العراق وسوريا بالصواريخ والطائرات المسيّرة، أما القوات المسلحة اليمنية فلم تكتف بإطلاق الصواريخ على أم الرشراش المحتلة ومهاجمة السفن الإسرائيلية عند مضيق باب المندب واحتجاز واحدة منها، بل طالت تهديداتها الدول الغربية التي تقدّم الدعم للاحتلال، وفي السياق نفسه، كان تصريح المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني، رمضان شريف، بأن "بعض الأيادي التي لا تطال إسرائيل قد تطال القوات الأميركية وأن كل القواعد الأميركية ورحلاتهم الجوية تحت الرصد والمراقبة".
معظم النار من مستصغر الشرر
خلال عام 1942، كان الجندي الروسي الصامد في ستالينغراد يتصوّر أن دوره الدفاع عن حدود بلاده، فقط، ومنعها من السقوط في قبضة الجيش الألماني النازي، لكن الحقيقة أن دوره التاريخي قد تخطى ذلك بكثير، إذ كتب بصموده كلمة النهاية لهذا الجنون النازي الاستعماري.
فلم تنحصر إنجازات الكاتيوشا (قاذفة صواريخ بي أم -13) في إفشال طموحات أدولف هتلر فقط، بل امتدت لتحقق أحلام ملايين البشر حينها في عالم خال من العنصرية والقتل المجاني.
ليس المقصود عقد مقاربة بين أوضاع النظام الدولي الآن وبين الحال في نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، حينما كان يتم النظر إلى برلين كعاصمة حديدية يستحيل كسرها، وكيف أنها سقطت بعد ذلك بسنوات قليلة وتم تقسيمها في 1945، ولكن المقصود أخذ العبرة من الماضي، والإيمان بإمكانية تغير الأحوال على نحو مفاجئ وصادم، بشرط توافر الصمود والإرادة.
العالم يتغيّر منذ أن غادر الإنسان الأول كهفه، وأفكار فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ" و"سيادة الليبرالية الغربية" ليست مقدسة عند أحد في الكرة الأرضية سوى "المحافظين الجدد" داخل الولايات المتحدة، والذين يرنون إلى ضمان بقاء البيت الأبيض كسيّد أوحد على مقدرات الكرة الأرضية.
إن أشدّ ما يزعج الأميركي اليوم هو أن تؤمن شعوب العالم بإمكانية إلحاق الهزيمة به، كما حدث مع النازيين يوماً ما، أو أن ترى مصلحتها مع روسيا الصاعدة بقوة عسكرها والصين النامية بفضل اقتصادها، بالضبط كما أن أكثر ما يصيب الاحتلال الصهيوني بالهلع، هو أن يؤمن العرب بالقدرة على تفكيك هذا الكيان، وأنه واهن وأعمدته هشّة ومغروسة فيه بذرة زواله من لحظة التأسيس، وأن تحتضن كفوف العرب كفوف جيرانهم وتمتد جسور التعاون.
لا يؤذي الأميركيين وأذنابهم الإسرائيليين أن يتم اتهامهم بالبلطجة وانعدام الأخلاق وارتكاب الجرائم، بل يؤذيهم أن يتجرأ عليهم خصومهم ويستهينوا بهم. وهذا بالضبط ما يحصل اليوم من أنصار الله في اليمن حتى مواطني الدونباس في شرقي أوكرانيا، خطوط المواجهة مع المعسكر الغربي تمتد وتتسع.
عندما توضع المعركة في غزة ضمن هذا السياق الأممي تتضح على الفور الأسباب التي تحرّض العواصم الغربية على الالتفاف حول "إسرائيل"، كما يتضح من جانب آخر حجم المُنجز الذي يصنعه ابن كتائب عز الدين القسام، وهو قابض على زناد بندقيته يتصدى للغزو البري في مخيم جباليا أو ضواحي خان يونس، وهو بذلك لا يدفع عدواناً عن أهله أو يساهم في تحرير أرضه فقط، بل يمنح البشرية كلها فجراً جديداً، ويبشر بولادة عالمٍ جديد لا يكون فيه الأميركي قادراً على الهيمنة أو توفير السلاح والدعم لأذنابه.