بعد مفاوضات مسقط وعمّان: تصعيدٌ أميركيّ و"هيمارس" في الشرق السوريّ
يدرك السوريون أنّ صمودهم وانتصارهم هو المُسبّب الأول في بلوغ الأحداث الأخيرة، وأنّ حاجة دول الإقليم إلى ربط النزاعات وإحلال التسويات، تُعادل حاجة دمشق إلى إعادة التعاون والتواصل والانفتاح السياسيّ والاقتصاديّ.
في الوقت الذي يشهد فيه المواطن السوريّ انفتاح حكومات الدول العربية على بلاده، والذي تُوّج بقرار الجامعة العربية رقم / 8914/، الذي نصّ على إعادة مقعد الجمهورية العربية السوريّة في الجامعة إلى أصحابه الشرعيين في دمشق، ثم حضور الرئيس السوريّ بشار الأسد، اجتماع القمة العربية الأخير في العاصمة السعودية، الرياض، وتحوُّل هذا الحضور إلى حدثٍ تاريخيّ بنظر السوريين أوّلاً، ثم على مستوى المنطقة قياساً بالأحداث التي شهدتها سوريا وعانت منها طوال أكثر من عشر سنوات، ومنها دعم الجماعات المعادية للدولة السوريّة، والحصار والمقاطعة التي شاركت فيها تلك الحكومات العربية، بالتوازي مع كلّ هذا، ينتظر هذا المواطن تداعيات ذلك الانفتاح وتلك القرارات وأثرها على الأرض، ويتابع مواقف الدول الغربية وتصرّفاتها حيال الأمر، وتحديداً موقف الولايات المتحدة الأميركية، ونشاطاتها السياسية والعسكرية المتعلقة بالوضع في سوريا.
يعرف السوريون قدرة الولايات المتحدة على المناورة والتعطيل وإلحاق الضرر بكل المبادرات السياسية الجارية أو المحتملة، على الرغم من عدم صدور موقف جازم من واشنطن يرفض، أو يعاقب، الدول والحكومات التي أعادت تواصلها السياسيّ وعلاقاتها مع دمشق، الأمر الذي كانت واشنطن تهدّد به دائماً قبل أشهر من الآن.
يدرك السوريون أنّ صمودهم وانتصارهم هو المُسبّب الأول في بلوغ الأحداث الأخيرة، وأنّ حاجة دول الإقليم إلى ربط النزاعات وإحلال التسويات، تُعادل حاجة دمشق إلى إعادة التعاون والتواصل والانفتاح السياسيّ والاقتصاديّ، وذلك ربطاً بمشكلات عديدة نتجت من الحرب على سوريا، وأهمها ما يتعلّق بالإرهاب واللاجئين والاقتصاد ومشكلات التهريب عبر الحدود التي يصعب ضبطها في ظروف الحروب والنزاعات المستعرة.
لكنّهم يتخوّفون من حقيقة أنّ مشكلات واشنطن من كلّ هذا، تختلف عن مشكلات دول الإقليم، فخطط الولايات المتحدة وأهدافها تزدهر أكثر خلال الحروب التي تفتعلها بنفسها، وفي أزمنة الفوضى التي تشكّل بالنسبة إليها، مشروعاً بحدّ ذاته، خصوصاً في المحيط العربي الذي يُقاوم كيان الاحتلال الإسرائيليّ ويعمل على مواجهته وهزيمته، ناهيك بفائدة الولايات المتحدة من نهب ثروات الشعب السوريّ، وقطع طرق التواصل بين بلدان وقوى محور المقاومة الصّاعد بقوة بعد الحرب.
لذلك، يكون وجود قوات الاحتلال العسكريّ الأميركيّ في سوريا، بحدّ ذاته، حتى في ظلّ الانفتاح السياسيّ العربيّ، قادراً على تعطيل أيّ تقدّم ملموس في الداخل السوري، خصوصاً أنّ لدى واشنطن ما يكفي من الأوراق القابلة للإشعال في أي وقت. لهذا كلّه، اهتمّ السوريون كثيراً بالأخبار التي وردت قبل أسابيع قليلة، والتي كشفت عن وجود مفاوضات سياسيّة مباشرة بين السوريين والأميركيين في سلطنة عُمان، والتي انتقلت لاحقاً إلى العاصمة الأردنيّة عمّان، بعد أنْ بلغت مستوى التفاوض الأمنيّ المباشر.
تقول واشنطن على لسان فيدانت باتيل، المتحدث الرسميّ باسم وزارة الخارجية الأميركية، إنّ المفاوضات التي جرت وتجري مع المسؤولين السوريين في مسقط، قد أتت بمبادرة ووساطة عُمانية، وهدفها الوحيد هو الكشف عن مصير ستّة مواطنين أميركيين اختفوا في سوريا في فترة الحرب، وأبرزهم أوستن تايس، وهو ضابط سابق في قوات المارينز الأميركية، تدّعي أوساط واشنطن أنّه توجّه إلى سوريا لتغطية الأحداث كصحفيّ مستقل، واختفى في العام 2012 في ريف دمشق، وأنّ الحديث مع السوريين لا يتعدّى هذه المسألة مطلقاً، فيما تشير المصادر والمعلومات في الحقيقة، إلى أنّ واشنطن تفاوض في كلّ الملفات، وتحاول ابتزاز دمشق على الصعد كافة بعد فشل مشروعها الكبير في سوريا، وارتداد تداعياته على حلفائها في المنطقة، ووجود هدف جديد يتمثّل في محاولة احتواء وإفشال التقدّم الروسي والإيراني على مسار المبادرات والتسويات في سوريا والإقليم.
على خطّ المفاوضات، أفادت المصادر أنّ السوريين وقفوا عند مطلب واحد فقط، هو الإعلان الرسميّ المترافق مع مؤشّرات ميدانيّة واضحة تؤدّي إلى رحيل قوات الاحتلال الأميركي من الشرق السوريّ، قبل أيّ حديث عن مسائل أخرى، مثل ترتيب العلاقة مع الكرد، حلفاء واشنطن وأدواتها في الشرق، والبحث في مصير المفقودين الأميركيين في سوريا، الذين لم يقدّم المفاوض السوريّ أيّ معلومات عنهم في مسقط.
فيما عرضت واشنطن ملفاتها السوريّة "المُزمنة" على الطاولة، والتي تتعلّق بإنهاء "الوجود العسكري الإيراني في سوريا" ( بحسب الرؤية الأميركية)، وقطع دمشق لعلاقاتها الميدانية والعملية مع حركات المقاومة في المنطقة، وعلى رأسها المقاومة الإسلامية في لبنان – حزب الله، وفصائل المقاومة الفلسطينية في الداخل المحتل والخارج، وإعادة التفاوض مع "المعارضة السورية" وفق القرار الأممي 2254، وتفعيل مباحثات "اللجنة الدستورية" بهدف التوصل إلى "حلّ سلميّ" للأزمة السورية وفق الموقف الأميركيّ، ولم ينس المفاوض الأميركي بالطبع، إعادة الطلب إلى السوريين عرض موقفهم من التفاوض مع الاحتلال الإسرائيليّ بغية التوصّل إلى "سلام" في المنطقة.
أعاد المفاوض الأميركيّ، طرح جميع طلباته السابقة التي تُحقّق له، ولحليفه الإسرائيلي، أهدافهما الكاملة التي طُرحت تحت النار منذ 2011، ولم يُغيّر أبداً طرائقه في الابتزاز لانتزاع الأثمان السياسية التي تحقق له مصالحه الكاملة في سوريا والمنطقة، الأمر الذي رفضه المفاوض السوريّ بشكل كامل، وكان صريحاً في عدم تقديمه أيّ تنازلات سياسية على الطاولة الأميركية.
وبعد انتقال المفاوضات إلى العاصمة الأردنية قرابة الأسبوع الأخير من شهر أيّار / مايو الفائت، والحديث عن تطوّرها نحو المستوى الأمنيّ، أكّدت المعلومات فشل عمليات الابتزاز الأميركيّ أمام إصرار السوريين على مبادئهم، الأمر الذي جرى تظهيره، أميركيّاً، في الميدان بشكل مباشر، وكانت أولى تداعياته، الهجوم الذي شنّته أعداد كبيرة من مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابيّ، على موقع للقوات الروسيّة العاملة في بادية منطقة تدمُر، والذي أسفر عن سقوط ضحايا، ومنهم ضبّاط، بين صفوف الحامية الروسيّة، وبينهم أحد أبرز قيادات القوات الخاصة الروسيّة العاملة في سوريا، وهو برتبة عقيد.
تلا ذلك مباشرة، الكشف عن استقدام قوات الاحتلال الأميركيّ منظومة راجمات الصواريخ المتطورة "هيمارس"، وهي منظومة متحرّكة تُستخدم لتنفيذ هجمات دقيقة على أهداف بعيدة. وفي حين أعلنت واشنطن عدم صحّة التقارير التي تشير إلى تسليمها تلك المنظومة إلى وحدات "قسد" الكردية، فالمؤكّد أنّ تلك الصواريخ قد وجدت مكانها في محيط حقول النفط السورية التي تتمركز فيها قوات الاحتلال الأميركيّ، خصوصاً حقلي "عُمر" و"كونيكو" في ريف محافظة دير الزور، بالتزامن مع رصد استقدام قوات الاحتلال الأميركيّ لتعزيزات كبيرة وجديدة إلى الشرق السوري، آخرها ما أعلنت عنه وكالة الأنباء السورية "سانا"، التي تحدثت عن دخول 40 شاحنة عسكرية أميركية إلى الأراضي السورية في الشرق، قادمة من الحدود العراقية، محمّلة بعتاد جديد وجنود وذخيرة وأجهزة لوجستيّة.
بالتوازي أيضاً وأيضاً، مع تكثيف قوات الاحتلال لعمليات تدريب الفصائل الجديدة وتسليحها والتي أوجدتها في السنوات الأخيرة، أو أعادت إحياءها مؤخّراً بهدف تطعيم أدواتها في الشرق بـ "وجوه عربيّة" لتخفيف حساسية العشائر العربية والأتراك معاً، من الكرد، وعلى رأس تلك الفصائل "لواء ثوار الرقة" الذي كانت "قسد" قد قضت عليه قبل سنوات، وما يُسمّى بـ "جيش سوريا الحرّة"، الذي أنشأته واشنطن في بادية "التنف" قبل أكثر من عام، والذي يضمّ مقاتلين من تنظيم "داعش" الإرهابي، إذ عمدت الاستخبارات الأميركية إلى التفاوض مع سجناء التنظيم الإرهابيّ لإطلاقهم وتنظيمهم وتسليحهم مقابل قتال الجيش السوريّ وحلفائه الروس والإيرانيين، وهو ما جرى ويجري بالفعل، الأمر الذي تطرّقت إليه التقارير الصحفية الصادرة عن المؤسسات السياسية والاستخبارية الروسيّة، وتناوله غير مرّة، المندوب الروسيّ في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، على منبر المؤسسة الدولية. تؤكّد الأوساط الروسية وجود معلومات استخبارية لديها، تفيد بوجود خطط مستجدة لدى واشنطن، تهدف إلى إعادة خلط الأوراق في سوريا لضرب جميع التفاهمات والتسويات الإقليمية، وذلك من خلال تكثيف الهجمات الإرهابية على الجيش السوريّ ومؤسسات الدولة الشرعية، وإعادة بثّ الفوضى في عموم الميدان السوريّ. والجدير ذكره أنّ قوات الاحتلال الأميركيّ المتمركزة في قاعدة "التنف" على مثلث الحدود السوريّة – الأردنية – العراقية، قد درّبت العام الماضي مقاتلي ما يُسمّى بـ "جيش سوريا الحرّة" على صواريخ "هيمارس" ذاتها، من دون أنْ تُسلّمها لهم.
من المؤكّد، بحسب المعلومات والتقارير الصحفية، أنّ مندوبي بعض الحكومات العربية وسفراءها في واشنطن، قد بذلوا خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة جهوداً كثيفة لإقناع أعضاء بارزين ومؤثرين في الكونغرس الأميركيّ بجدوى الانفتاح على دمشق، وضرورة تغيير أسلوب التعاطي الغربي والإقليميّ حيال الأزمة السورية، لما فيه مصلحة دول الإقليم من حلفاء واشنطن، ولعلّ سفراء المملكة العربية السعودية ومصر والأردن وسلطنة عمان، هم أبرز من اضطلع ويضطلع بهذا الدور وفق رؤية مشتركة لحكومات بلدانهم، لكن الوقائع الميدانية تشير إلى أنّ الخيار الأكثر احتمالًا في المرحلة القريبة القادمة، سيتمثّل في تصعيد عسكريّ ستشهده المنطقة الشرقية من سوريا، خصوصاً بعد أن بلغت المفاوضات السورية – الأميركية طريقاً مسدوداً، وبعد أنْ أدركت واشنطن أنّ قرار دمشق وحلفائها، المتعلّق بالعمل على إجلاء قوات الاحتلال من الشرق، لا رجعة فيه.
وتشير الوقائع إلى أننا نختبر هذه الأيام مرحلة "توثّب" وجهوزية كاملة من جميع الأطراف، بانتظار لحظة انفجار الوضع هناك، أو حدوث خرق مفاجئ يُعيد المفاوضين إلى الطاولة وفق رؤى جديدة، وهو أمر قابل الحدوث اتّكاءً على تطوّرات متعلّقة بالمفاوضات النووية الأميركية – الإيرانية في مسقط، وجهود الحكومات العربية الرّامية إلى إقناع المسؤولين في واشنطن، بضرورة سلوك مسارب جديدة على خرائط الأزمات والتسويات في سوريا والإقليم.