بعد عودة نتنياهو للحكم... قطار التطبيع إلى أين؟
التطبيع بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يأخذ أبعاداً مغايرة في التطبيق، إذ إنّ استراتيجية نتنياهو مبنية على أنه ليس من الضروري حلّ القضية الفلسطينية من أجل البدء في عملية التطبيع مع العالمين العربي والإسلامي.
تَعدّ "إسرائيل" التطبيع مع الدول العربية والإسلامية في المنطقة هدفاً استراتيجياً من المقام الأول، إذ يعوّض التطبيع للإسرائيلي عقدة نقص الشرعية التي تعاني منها "إسرائيل" ككيان غريب وطارئ على جسد المنطقة العربية والإسلامية، ومشكوك دوماً في إمكانية بقائه واعتراف شعوب المنطقة به، أضف إلى ما يحمله التطبيع من انعكاسات إيجابية في ترسيخ دور "إسرائيل" في المنطقة كـ"دولة مركزية" في سياسات المنطقة، وكعضو رئيس في خارطة النفوذ السياسي والاقتصادي فيها.
وازدادت أهمية تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع دول المحيط مع بروز قضية الملف النووي الإيراني، وازدياد قوة محور المقاومة في المنطقة، فـ"إسرائيل" تهدف إلى تشكيل ائتلاف سياسي مع دول التطبيع في المنطقة يشكل حالة معادية تحاصر إيران ومحور المقاومة، وتسعى بشكل حثيث لإيجاد تحالف عسكري تتجنّد في داخله دول التطبيع جنباً إلى جنب مع "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها على غرار عاصفة الصحراء عام 1990م ضد العراق بعد غزوها الكويت.
والجدير بالذكر أن كل الحكومات الإسرائيلية تضع قضية التطبيع على سلم أولوياتها المركزية، بدءاً من اتفاق "كامب ديفيد"، وصولاً إلى نظرية الشرق الأوسط الجديد لوزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز في التسعينيات من القرن الماضي، التي كانت مبنية على أن مفتاح التطبيع مع العرب هو نجاح عملية التسوية مع الفلسطيني على أساس حل الدولتين، بما يحمله من تنازلات مضطرة "إسرائيل" إلى تقديمها للفلسطيني كبوابة إجبارية للوصول إلى العلاقات التطبيعية مع العرب، كما ورد في المبادرة العربية عام 2002م.
لكنّ التطبيع بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يأخذ أبعاداً مغايرة في التطبيق، إذ إن استراتيجية نتنياهو مبنية على أنه ليس من الضروري حل القضية الفلسطينية من أجل البدء في عملية التطبيع مع العالمين العربي والإسلامي، بل يمكن القفز عن الفلسطينيين من دون أن تتأثر عملية التطبيع مع العرب، الأمر الذي بنيت عليه مرتكزات اتفاقات "أبراهام" التطبيعية بدعم قوي من إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب.
لكن، مع عودة نتنياهو مجدداً إلى الحكم مع شركائه الجدد من "الصهيونية الدينية" الفاشية و"الحريديم"، هل ستزداد سرعة قطار التطبيع الذي أطلقه نتنياهو من خلال اتفاقات "أبراهام"، خاصة أنه أعلن أن هدفه الرئيس التطبيع مع المملكة العربية السعودية، أم أن التغيرات التي حدثت خلال فترة غياب نتنياهو عن الحكم ستضع عراقيل أمامه؟
تأجيل زيارة نتنياهو للإمارات العربية، والذي تم ربطه باقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير باحات المسجد الأقصى، إضافة إلى ما أبرزه مونديال قطر من التفاف الشعوب العربية حول القضية الفلسطينية، وأنها ما زالت قضية الشعوب العربية والإسلامية المركزية، وأن تلك الشعوب ما زالت تحتفظ بالكراهية والعداء للكيان الإسرائيلي الاحتلالي، الأمر الذي لم تتوقعه "إسرائيل" ذاتها من تلك الشعوب، لدرجة أن المونديال الذي أقيم لأول مرة في بلد عربي ترك مرارة لدى كثير من الإسرائيليين؛ بسبب ما بدا من كراهية لهم من اليوم الأول لانطلاقته، الأمر الذي أكدته نتائج مؤشر الرأي العربي لعام 2022، بأنَّ 84% من العرب في المتوسط يعارضون الاعتراف الدبلوماسي بـ"إسرائيل" من دولهم على الرغم من اتفاقيات التطبيع، بحسب استطلاع آراء مواطنين في 14 دولة عربية، وفق ما أفادت صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، الخميس 5 كانون الثاني/يناير 2023م.
وبالنتيجة، نرى أن هناك عوامل كابحة لسير قطار التطبيع بالوتيرة السابقة، أهمها:
أولاً، طبيعة حكومة نتنياهو السادسة، التي تعدّ الأكثر فاشية وإرهاباً في تاريخ الكيان الإسرائيلي، والتي تحمل أجندة استيطانية تهويدية وإحلالية لكل ما هو فلسطيني، وتعدّ اقتلاعه وتهجيره من أرضه مهمة دينية مقدسة، من أجل فرض السيادة اليهودية على الضفة الغربية (يهودا والسامرة)، الجغرافيا الدينية لـ"إسرائيل" التوراتية بمفهومها التلمودي المزيف، الأمر الذي سينتج منه إعدام مباشر لحل الدولتين بشكل علني لا يترك المجال لأي هامش من الخداع الكلامي تجاه الالتزام الإسرائيلي بعملية التسوية وحل الدولتين من قبل أي جهة إسرائيلية، و سيكشف زيف ادعاء المطبعين، بأن تطبيعهم يصب في مصلحة حماية الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية من الاستيطان، والإبقاء على حل الدولتين.
بناء على ذلك، ستلعب التطورات الأمنية والسياسية على الساحة الفلسطينية، وخصوصاً الأوضاع في مدينة القدس وحول المسجد الأقصى المبارك دوراً مركزياً في تحديد وتيرة تقدم التطبيع مع الإسرائيلي، فالعلاقة ستكون عكسية بين ازدياد الهجمة الصهيونية التهويدية والاستيطانية على الضفة الغربية ومدينة القدس وبين تسارع رقعة التطبيع وتوسيعها، خاصة أن شركاء نتنياهو من "الصهيونية الدينية" داخل الائتلاف الحكومي يكرسون البعد الديني في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بما لدى هذا البعد من تأثيرات قوية على الجماهير الإسلامية، وقدرات على تثوير الشعوب العربية والإسلامية وتحريكها، الأمر الذي سيخلق حالة صد أمام أي نظام عربي أو إسلامي للذهاب بأي خطوة في اتجاه التطبيع مع "إسرائيل"، أو تعميق علاقاته التطبيعية، في مثل تلك ظروف. أكد محللون سياسيون في "إسرائيل" أن تفجر الوضع الفلسطيني سيشكل عائقاً أمام تنفيذ نتنياهو للبند الثالث من أهداف حكومته، والذي أعلنه من على منصة الكنيست الإسرائيلي أثناء تنصيب حكومته، وهو توسيع دائرة العلاقات التطبيعية الإسرائيلية مع الدول العربية للوصول إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
ثانياً، لعبت الولايات المتحدة الأميركية دوراً مركزياً في الوصول إلى اتفاقات "أبراهام" التطبيعية، فوجود دونالد ترامب وعلاقته الجيدة مع زعماء الخليج، وخاصة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ساهم بشكل رئيس في انطلاق قطار التطبيع، ودخول كل من المغرب والسودان على سكته، ولكن توتر العلاقات الأميركية- السعودية في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، وازدياد ذلك التوتر على إثر الأزمة الأوكرانية- الروسية بشأن زيادة كمية إنتاج النفط، والموقف الخليجي من الحرب، والانفتاح الخليجي تجاه الصين، والتقارب الإيراني- السعودي، وعودة العلاقات الدبلوماسية الإماراتية والكويتية مع إيران بعد تخفيض لها منذ سبعة أعوام، كإشارة واضحة على إعادة منطقة الخليج ترسيم خارطتها الدبلوماسية مع إيران.
كل ذلك يصب في خانة تراجع تأثير الولايات المتحدة الأميركية في أنظمة التطبيع وخاصة السعودية، وبالتالي ستفقد "إسرائيل" أهمية دورها كبوابة وصول إجبارية أمام تلك الأنظمة للوصول إلى البيت الأبيض في واشنطن.
أضف إلى ذلك، أن ما تطلبه السعودية من الأميركيين في مقابل التطبيع مع "إسرائيل"، يصب في كسر التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة، فبناء مفاعل نووي مدني سعودي، ورفع حظر بيع السلاح الأميركي المتقدم للسعودية كطائرات "أف 35" أمور لها تأثير في توازن القوى العسكرية في المنطقة لمصلحة العرب، الأمر الذي يعدّ هدماً لأساس عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، ناهيك بأن بايدن لن يكون متعجلاً فيما تبقى من وقت قبل انتخابات الرئاسة الأميركية لتقديم أي إنجاز لحكومة نتنياهو الذي ينظر إليها اليهود الأميركيون الإصلاحيون كحكومة فاشية.
لكن، على المقلب الآخر، انطلاق الاجتماع الأول لمجموعات عمل منتدى النقب، في أبوظبي، تمهيداً لقمة وزراء خارجية المنتدى المتوقع انعقادها في المغرب خلال الأشهر المقبلة، يشير إلى أن دول التطبيع ما زالت تحافظ على استمرارية قطار التطبيع مع حكومة نتنياهو، حتى ولو بالحد الأدنى، من خلال رهاناتها أن نتنياهو سيستطيع لجم شركائه في "الصهيونية الدينية"، كما يروّج لذلك نتنياهو نفسه.
كذلك يرى بعض التطبيعيين أن استمرارية مسار التطبيع ستساعد نتنياهو في تحقيق ذلك الهدف، متناسياً أن هذه الحكومة الأكثر فاشية، ليست مجرد طفرة انتخابية إسرائيلية، بل هي نتاج التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية داخل المجتمع الصهيوني، الذي كشف عن وجهه الإرهابي الفاشي الحقيقي.