بعد انتهاء ولاية رياض سلامة... هل تنتهي "دولة المصارف"؟
في كل مرة، وبعد كل أزمة، كان النظام الاقتصادي اللبناني يعيد إنتاج نفسه، محافظاً على مصالح فئة قليلة سمّاها المؤرخ كمال صليبي "الكونسورسيوم".
هل تنبئ نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ببداية مرحلة جديدة على المستويات الاقتصادية والمالية والنقدية في لبنان؟
الإجابة صعبة. ففي لبنان لا تبدو التحوّلات الاقتصادية العميقة سهلة أو سلسة، وقد تكون شبه مستحيلة. كل المحطات التاريخية التي شهدها لبنان طوال 100 عام أثبتت أن التغيّرات إذا حصلت تكون طفيفة ونسبية وشكلية، وتبقى تحت سقف النموذج الاقتصادي الريعي الخدماتي، وتحديداً المصرفي الذي نشأ منذ 100 عام.
هذا ما حصل بعد الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي مباشرة، ثم عقب أزمة "إنترا" الشهيرة عام 1966، وبعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. في كل مرة، أعاد النظام الاقتصادي إنتاج نفسه، محافظاً على مصالح فئة قليلة سمّاها المؤرخ كمال صليبي "الكونسورسيوم".
تقف البلاد اليوم أمام التحدي مجدداً في ظل الأزمة الاقتصادية الأخطر في تاريخ لبنان. وتشكل نهاية ولاية الحاكم فرصة يرى الكثيرون أنها مناسبة لحصول التغيير الكبير.
فهل يحصل ما ينتظره اللبنانيون منذ سنوات أم تتكرر السيناريوهات السابقة ضمن قواعد اللعبة الثابتة والسائدة؟
لا تبدو حظوظ الإصلاح والتغيير مرتفعة. هذا الاستنتاج لا يأتي من تشاؤم ناجم عن سوء الحالة التي يمر بها البلد. العودة إلى الوقائع الاقتصادية التاريخية تؤكد صلابة المنظومة الاقتصادية وقوتها وقدرتها على الصمود في أصعب الظروف. هذه المنظومة يطلق عليه اللبنانيون اليوم تسمية "حزب المصارف" للدلالة على تماسكها وتنظيم صفوفها، لكنّ الكاتب هشام صفي الدين ذهب أبعد من ذلك، وأطلق على الدولة في لبنان تسمية "دولة المصارف"، وذلك في كتابه الذي حمل العنوان نفسه، والذي خصص للحديث عن تاريخ لبنان المالي.
بالفعل، تؤكد الوقائع التاريخية والمحطات المختلفة أن صفي الدين كان صائباً في تسميته. ما حصل يتخطى قدرات حزب وحجمه ودوره وتأثيره.
وإذا كانت أهم وظائف الدولة هي الحماية، فـ"دولة المصارف" قامت بالوظيفة على أكمل وجه تجاه المصارف اللبنانية، وإذا كانت ثاني الوظائف هي الرعاية فـ"دولة المصارف" ترعى مالكي المصارف وأصحابها وأزلامها وأدواتها وأذرعها الممتدة كالمافيا أو كالأخطبوط.
من هنا، استمد رياض سلامة مقوّمات الصمود التي جعلته يحتفظ بموقعه، رغم الكارثة التي ساهم هو بشكل قوي في وصول البلاد إليها. فالرجل وريث النموذج الاقتصادي الذي سخّر كل مقوّمات الدولة وإمكاناتها لخدمة القطاع المصرفي، وتراكم أرباح مالكيه. سلامة كان بمنزلة "رئيس دولة المصارف" الذي منحه القانون اللبناني صلاحيات واسعة وكبيرة، وهو حارس "قلعة المصارف" في جمهورية التجار، إذا اعتمدنا تسمية لبنان بـ"جمهورية التجار"، بحسب ما ساد في مرحلة ما بعد الاستقلال.
في تلك المرحلة، برزت شخصية أخرى قامت بدور مشابه، وتحديداً في عهد بشارة الخوري. إنه الفرنسي رينيه بيسون، مدير "مصرف سوريا ولبنان" الذي كان رمز النفوذ الفرنسي في لبنان الخارج من زمن الانتداب. عرف الأخير بالشخصية الأكثر نفوذاً في محيط الخوري، والأكثر تأثيراً في تعيين الخيارات الاقتصادية للدولة، وصولاً إلى إطلاق الملحق التجاري البريطاني في لبنان في العام 1949 على بيسون لقب "الديكتاتور الاقتصادي للبنان".
حكم بيسون لبنان من خلال "مصرف لبنان وسوريا" الذي حصل على "العقود الحكومية من تشييد الأبنية الحكومية إلى تنفيذ مشروع الليطاني "ومن خلال منحه القروض لأزلام فرنسا في لبنان، وحجبها عن المناهضين للمصالح الفرنسية" كما يورد ألبير داغر في كتابه "لبنان المعاصر: النخبة والخارج وفشل التنمية".
مصرف ثان لعب دوراً كبيراً لا يقل أهمية هو بنك "فرعون شيحا" الذي موّل منذ ما قبل الاستقلال، الحملات الانتخابية ما سمح لمالكيه وأبرزهم ميشال شيحا بأن يختاروا ثلاثة أرباع أعضاء البر لمان. تؤكد الوثائق المختلفة أن 24 نائباً كانوا يتقاضون مبالغ من المصرف بانتظام. حتى إن النائب يوسف الخازن اقترح خلال إحدى الجلسات النيابية افتتاح جلسات البرلمان "باسم مصرف فرعون وشيحا" لا باسم "الشعب اللبناني".
وقد أفرد فواز طرابلسي في كتابه "صلات بلا وصل" مساحة للحديث عن هذا الدور، معتبراً أن المصرف كان "المسير الفعلي لسياسة الدولة الاقتصادية ومقرر تشريعاتها الضريبية".
كل ما يجري كان برعاية فرنسا مباشرة، وذلك بصفتها دولة الانتداب، ولكن من خلال ملكيتها لحصة وازنة في القطاع المصرفي. الرعاية الدولية التي وصلت في أكثر من محطة إلى حماية كانت من الثوابت في "دولة المصارف" خلال 100 عام. طبعاً، تغيّرت هوية الراعي الدولي بحسب تغير موازين القوى، لكنّ تأثيره كان يتكرس مع مرور الوقت. فعلى الرغم من تبديل الرئيس كميل شمعون للولاء الخارجي، فإن تأثير المنظومة المصرفية لم يتغير، لا بل تطوّر بعد أن استطاع القطاع المصرفي أن يتكيّف مع التطورات الاقتصادية والمالية والنقدية في العالم التي تولت دفة إدارتها الولايات المتحدة الأميركية.
قدم شمعون كل أوراقه لواشنطن ووضع نفسه في تصرفها. وتناغماً مع توجهات اتفاقية "بريتون وودز"، نشأ في لبنان المصرف المركزي. لم تكن ولادته سهلة. حصل خلاف بين المستفيدين من "مصرف سوريا ولبنان" وبين التوجه الجديد المتمثل بإنشاء مصرف مركزي. الخلاف عكس التنافس بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية من جهة، وخوف النخب اللبنانية من التغيير الذي يمكن أن يؤثر في حماية مصالحها المادية من جهة أخرى. خاف "بارونات المصارف" من أن يزعزع المصرف المركزي نفوذهم المالي، بيد أن الخلاف ما لبث أن حسم. يكشف صفي الدين في كتابه أن المعسكرين توحّدا "عندما وجدا نفسيهما يحاربان عدواً مشتركاً هو تنظيم القطاع من جانب الدولة في عهد فؤاد شهاب".
ويضيف صفي الدين أن المصرفيين اللبنانيين تولوا "مهمة المراقبة الاستراتيجية للاقتصاد اللبناني من خلال القطاع المصرفي. وتحت إشرافهم أعيد تشكيل الأسس المالية في البلاد في سياق الهيمنة المالية الأميركية". فالأميركيون كانوا حريصين على أن ينهي المصرف المركزي دور "بنك سوريا ولبنان"، وأن تتوقف عملية محاباة رأس المال المرتبط بفرنسا لمصلحتهم.
وهكذا، دخلت البلاد مرحلة النفوذ الأميركي ليصبح القطاع المصرفي إحدى أبرز أدوات الأميركيين في لبنان. وقد ثبتت أزمة بنك "إنترا" هذا النفوذ، لا بل أعطته دفعاً كبيراً. هذه الأزمة التي حصلت في العام 1966 أحدثت اهتزازاً قوياً في مداميك قلعة أو دولة المصارف. انهيار البنك الأكبر في لبنان وفي الشرق الأوسط لم يكن عابراً. وقد تقاطعت عوامل عديدة أدت إلى إفلاسه.
ما حصل عكس من جهة الصراع بين الحرس القديم في المصارف، وأحد اللاعبين الجدد الذين دخلوا بقوة إلى القطاع لمنافستهم على امتيازاتهم ومصالحهم. وقد عبّر ميشال أبو جودة في صحيفة "النهار" عن هذا الصراع بدعوته في إحدى مقالاته "المئة عائلة التي تحكم البلد أن تكف عن خيانة بعضها بعضاً، وأن تحافظ على وحدتها".
من جهة ثانية، شكّل إسقاط بنك "إنترا" الجبهة الاقتصادية للحرب التي شنّت على عهد فؤاد شهاب. وتحدث كثر عن دور سعودي على خلفية رعاية مصر الناصرية للعهد الشهابي.
بيد أن لدى هشام صفي الدين تفسيراً إضافياً لافتاً لأزمة "إنترا"، وهو استدعاء المزيد من "التدخل الأجنبي في تصميم الإصلاحات البنيوية في القطاع وتنفيذها". والأجنبي في تلك المرحلة كان يعني الأميركيين.
اختيرت شركة استشارات أميركية لوضع خطة عمل لمستقبل "إنترا". هذه الشركة هي جزء من "شبكات السياسات فوق سيادية التي كانت أداة مهمة للهيمنة الأميركية في المنطقة"، بحسب صفي الدين، وللسفارات الأميركية دور محوري فيها، وهي تتكوّن من مخبرين ومحللين ومحاورين يتغلغلون في عمق إدارة الدولة ومحافل رجال الأعمال ومجتمع الأبحاث في لبنان ومن بين هؤلاء روجيه ترمز الذي مثل المصالح الأميركية في البنك وحماها".
هذه الشبكة أو نسختها الجديدة هيمنت في مرحلة الطائف. رياض سلامة كان من أبرز أعضاء هذه الشبكة التي أدارها رفيق الحريري ببراعة يساعده فؤاد السنيورة. استطاع هؤلاء تسخير كل مقدرات الدولة اللبنانية من أجل خدمة أوليغارشية مصرفية ومالية، ما انفكت تتعاظم وتراكم ثرواتها وتؤثر في تحديد السياسات الاقتصادية والضرائبية. وقد تجاوب السياسيون إلى أبعد الحدود. فقد أمّنت المصارف بالشراكة مع المصرف المركزي الذي ترأسه سلامة منذ 30 عاماً مداخيل ثابتة للسياسيين، كما كان الأمر عليه أيام "بنك فرعون وشيحا" في مطلع الاستقلال.
ووسط حالة الانكماش الاقتصادي الدائم الذي اتصف به لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي، استطاعت "الشبكة" أن تفصل القطاع المصرفي عن هذا الواقع من خلال تأمين مقوّمات ازدهاره. يشرح ألبير داغر هذه المفارقة: "يقتطع هذا القطاع الريع المالي من دون أن تترتب على ذلك مساهمة فعلية منه في بناء اقتصاد منتج. وقد سجلت المصارف الـ 14 الأولى عام 2014 عائداً صافياً من اكتتاباتها في سندات الخزينة يساوي نحو 4 مليارات دولار سنوياً، وحين تعجز عن توظيف نسبة مهمة من ودائعها، يتطوّع البنك المركزي لاقتراض هذه المبالغ منها بفائدة أعلى من تلك التي تحصلها من سندات الخزينة". وهكذا، أعيد تشكيل سلطة المصرفيين من خلال إعادة هيكلة الدين العام.
من الواضح أن سلامة ازداد تأثيره بعد اغتيال الحريري. واستطاع الاستفادة من شبكة من الإعلاميين والسياسيين ورجال الأعمال المنتفعين الذين كالوا المديح للمصرف المركزي وحاكمه وجمعية المصارف، وروّجوا لسياسة استقرار سعر الصرف كضمانة للاقتصاد الوطني.
وإذا كان مشروع الحريري أصبح في حالة احتضار بعد اغتياله وخروج السنيورة من المشهد ثم المصير السياسي التراجيدي لسعد الحريري، فإن رياض سلامة ظل من الثوابت التي لا تمس. حماه الأميركيون كما "الكونسورسيوم " الحاكم. أكدوا حتى الآن على الأقل أن المصارف لا تمس وهي فوق المحاسبة من خلال إعفائها من عملية توزيع الخسائر التي تتحمّل الجزء الأكبر من مسؤوليتها. إلى متى يستطيعون مواصلة اللعبة، وهل تغيّرت موازين القوى في لبنان بما يسمح بتعديلات جذرية في البنية الاقتصادية والنقدية والمالية؟
الأيام المقبلة كفيلة بتوضيح الصورة، وهي أيام ستستمر ثقيلة وقاسية على اللبنانيين.