انفراجات الأزمة العراقية.. حلحلة أكثر منها حلول!
لا يُخطئ من يقول إن مهمة السوداني سوف تكون صعبة وعسيرة، وإن الطريق أمامه لن تكون معبّدة ومزروعة بالورد.
أخيراً وبعد عام كامل من الشد والجذب، لاحت معالم وملامح الانفراج في الأزمة السياسية العراقية، بانتخاب القيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني عبد اللطيف رشيد رئيساً للجمهورية خلفا لبرهم صالح، وتكليف مرشح الإطار التنسيقي، الوزير والنائب السابق محمد شياع السوداني تأليف الحكومة الجديدة.
مجمل الأجواء التي سبقت ورافقت اختيار رشيد وتكليف السوداني، كانت إيجابية إلى حد كبير. فمختلف القوى السياسية العراقية، وإن كان بعضها اختلف في التفاصيل والجزئيات، إلا أنها أجمعت على أهمية وضرورة هذه الخطوات من أجل وضع حد لحالة الانسداد والجمود السياسي، وبالتالي منع انزلاق البلاد إلى أتون صراع داخلي من الصعب التنبّؤ بمدياته ومالاته. وحتى التيار الصدري الذي كان قد انسحب من العملية السياسية قبل أن يعلن زعيمه السيد مقتدى الصدر في وقت لاحق اعتزاله العمل السياسي رفضاً لوجود وتحكّم من سمّاهم الفاسدين بمقاليد الأمور في البلاد، التزم الصمت ولم تصدر منه أي تعليقات، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، وهو ما فهم أو فسّر على أنه إذعان للأمر الواقع من جانب، أو من جانب آخر، مرتبط بتطمينات من نوع معين، من دون استبعاد اللجوء إلى ورقة الشارع إذا أراد التيار الضغط وفرض مسارات وخيارات ما.
وبموازاة التفاعل السياسي والارتياح الشعبي الداخلي، عكست المواقف الإقليمية والدولية المرحبة بانتخاب رشيد وتكليف السوداني، ومن أطراف متقاطعة ومختلفة في عدد من القضايا والملفات، رغبة في احتواء الأزمة العراقية، وتهدئة الأمور، وذلك من خلال الذهاب إلى تأليف حكومة جديدة عبر خيار التفاهم والتوافق بين الفرقاء السياسيين، باعتباره أكثر الخيارات واقعية وأقلها ضرراً في هذه المرحلة تحديداً، على الرغم مما انطوى عليه من سلبيات كثيرة وكبيرة في المراحل اللاحقة. وكما قلنا سابقاً، تبقى الخيارات والخطوات ذات الطابع السلمي هي الأكفأ والأفضل، وإن اتّسمت بقدر كبير من التعقيد وتطلّبت كثيراً من الوقت. وقبل ذلك وبعده، استلزمت كسر الحواجز النفسية وتحطيمها، والبحث عن نقاط التفاهم والالتقاء والابتعاد قدر الإمكان عن نقاط الافتراق.
وبالنسبة إلى رئيس الجمهورية الجديد، وإن كان قد جاء إلى المنصب بشق الأنفس، وفي ظل غياب التوافقات والتفاهمات الحقيقية بين القوى الكردية الرئيسة، المتمثّلة في الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، إلا أنه يؤشر إلى قدر من الإيجابية ارتباطاً بشخصية وسيرة رشيد، الذي يعد الرئيس الخامس بعد إطاحة صدام في ربيع عام 2003، إذ سبقه إلى تولي المنصب الزعيم القبلي الشيخ غازي الياور (2004-2005)، والأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني الراحل جلال الطالباني (2005-2014)، والقيادي في الاتحاد فؤاد معصوم (2014-2018)، ثم القيادي المنشق عن الاتحاد والعائد إليه فيما بعد برهم صالح (2018-2022).
وعرف عبد اللطيف رشيد (78)، الذي انخرط في العمل السياسي منتصف ستينيات القرن الماضي في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يتزعمه حينذاك الملا مصطفى البارزاني، عرف بشخصيته الهادئة المتسمة بالوسطية والاعتدال والمرونة، وربما ارتبط ذلك بطبية نشأته وظروفها، إذ أكمل دراسته الجامعية الأولية والعليا في بريطانيا، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في هندسة الموارد المائية من جامعة مانشستر، ثم تزوّج (شاناز) ابنة القيادي الكردي الراحل إبراهيم أحمد، ليصبح عديلاً للرئيس الراحل جلال الطالباني، الذي كان قد تزوّج (هيرو) الأبنة البكر لإبراهيم أحمد.
ومع أنه كان من قيادات الخط الأول في الاتحاد الوطني الكردستاني، وعلى الرغم من الخلافات والصراعات المسلحة وغير المسلحة بين الأخير وغريمه الحزب الديمقراطي، إلا أن رشيد بقي يمثّل حال الوسطية والاعتدال ولم ينجرّ إلى مساحات العنف والتطرف كما فعل بعض رفاقه وخصومه، ولعل هذا ما جعل رئيس الحزب الديمقراطي مسعود البارزاني، يدعمه بقوة في تولي رئاسة الجمهورية بعدما أخفق في إمرار وفرض مرشحَي الحزب، وهما كل من هوشيار زيباري وريبر أحمد.
وبعد إطاحة نظام صدام، تولى رشيد منصب وزير الموارد المائية سبعة أعوام تقريباً، قبل أن ينتقل إلى رئاسة الجمهورية بصفة مستشار أقدم للرئيس.
ومع أن منصب رئاسة الجمهورية في العراق، يعد وفق الدستور العراقي النافذ عام 2005، منصباً رمزياً ذا طابع تشريفاتي، إلا أنه بحكم الأوضاع والظروف السياسية الاستثنائية في البلاد طوال العقدين الماضيين، كان لطبيعة الشخص الذي يتولى المنصب، ومساحات علاقاته بمختلف الأطراف، دور وأثر غير قليل في حلحلة الأزمات والتقريب بين الفرقاء، وهذا ما بدا واضحاً خلال فترة تولي الرئيس الطالباني المنصب، منذ عام 2005 حتى مرضه في أواخر عام 2012 ثم رحيله في الثالث من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2017.
وانطلاقاً من ذلك، تعول أوساط ومحافل سياسية عديدة على دور الرئيس رشيد في تصحيح كثير من السياسات الخطأ واحتواء الأزمات الخانقة، وفك عقد الملفات الخلافية الشائكة، لاسيما إذا كان هناك انسجام وتنسيق جيدان مع رئيس مجلس الوزراء الجديد، الذي ينتظر منه الشيء الكثير، وسط تفاؤل واضح مشوب بقدر من التوجس والحذر بسبب مستوى التعقيدات في المشهد العراقي بكل جوانبه ومجالاته، السياسية والأمنية والاقتصادية والخدمية.
ويرث السوداني تركة ثقيلة من المشكلات والأزمات والإخفاقات، فضلاً عن الشارع الممتعض والمستاء من إهمال الحكومة مطالبه وحقوقه ومعاناته، والاضطراب السياسي والمجتمعي، وتراجع هيبة الدولة، واستفحال الفساد على نطاق واسع، وربما غير مسبوق في ظل ولاية رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي مصطفى الكاظمي، الذي تولى المنصب بعد استقالة عادل عبد المهدي، على خلفية التظاهرات الجماهيرية في العاصمة بغداد وعدد من مدن العراق الأخرى في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
وفي كلمته التي وجّهها إلى الشعب العراقي بعيد تكليفه تأليف الحكومة مساء الثالث عشر من الشهر الجاري، تعهد السوداني بأن تكون إحدى أبرز مهام حكومته المرتقبة هي غلق منافذ الفساد عبر القوانين والتشريعات الصارمة، بالتعاون مع السلطتين التشريعية والقضائية، مشدداً على أن محاربة الفساد ستكون في مقدم أولويات الحكومة. ودعا الجميع إلى تحمل المسؤولية والمشاركة في حملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد.
وقال أيضاً، "نعلن استعدادنا التام للتعاون مع جميع القوى السياسية والمكونات المجتمعية، سواء المُمثَّلةُ في مجلسِ النوابِ أو الماثلة في الفضاء الوطني، فالمسؤولية تضامنية يتحملها الجميع، من قوى سياسية ومنظمات مهنية وقطاعية ونخب وكفاءات وقادة رأي، فنحن أبناء وطن واحد، وإخوة في الشدة والرخاء، ولن نسمح بالإقصاء والتهميش في سياساتنا، فالخلافات صدّعت مؤسسات الدولة وضيّعت كثيراً من الفرص على العراقيين في التنمية والبناء والإعمار".
وأعرب رئيس مجلس الوزراء العراقي المكلف عن رغبته الجادة في "فتح باب الحوار الحقيقي والهادف؛ لبدء صفحة جديدة في العمل لخدمة أبناء شعبنا وتخفيف معاناته بتعزيز الوحدة الوطنية، ونبذ الفرقة، وشطب خطاب الكراهية".
وأكد السوداني أن رؤيته واضحة وبرنامجه داعم للحكومات المحلية لتمكينها من تقديم أفضل الخدمات للمواطنين، وتنفيذ واجباتها وتلبية المطالب المشروعة لأبناء الشعب، إلى جانبِ الالتزام بالعمل وفق الدستور في تمتين العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وفك الخلافات والمسائل العالقة منذ أمد بعيد، مشدداً على سعيه الجاد لإجراء انتخابات محلية ونيابية، في ظل أجواء حرة ونزيهة، وفي ظل نظام انتخابي شفاف يطمئن كلّ المتنافسين، قائلاً "لقد آن الأوان لاسترداد هيبة الدولة، وفرض احترام القانون، ووقف نزيف التدهور والانفلات بجميع مسمياته وأشكاله، والانتصار لقيم المجتمع العراقي الأصيلة، وأن الدولة هي صاحبة الحق الشرعيِ في نشر الأمن وبسط القانون والذَّود عن السيادة الوطنية عبر مؤسساتها العسكرية والأمنية الرسمية".
ولعل القراءة الدقيقة والموضوعية لمضامين كلمة السوداني، تؤشر إلى رسائل إيجابية مهمة، وتحديد واقعي للأولويات المطلوبة، التي كان السوداني قد تحدث عنها بشيء من التفصيل والإسهاب في لقاءات إعلامية بعد ترشيحه رسمياً للمنصب من قبل الإطار التنسيقي في أواخر شهر تموز/يوليو الماضي.
وهناك عوامل عديدة من شأنها تعزيز فرص النجاح لدى رئيس مجلس الوزراء المكلف، من بينها مسيرته السياسية والمهنية الجيدة، إلى جانب خلفيته الاجتماعية العشائرية، فالرجل الذي فقد والده عام 1980، ولم يتجاوز عمره عشرة أعوام، بعدما أعدمه نظام البعث الحاكم حينذاك، بسبب انتمائه إلى حزب الدعوة الإسلامية، شغل مواقع وظيفية متقدّمة بعد عام 2003، ابتداء من قائمقام قضاء العمارة، مرورا بتوليه مسؤولية وزارات وهيئات حكومية عليا مختلفة، إما بالأصالة وإما بالوكالة، مثل وزارات حقوق الإنسان، والعمل والشؤون الاجتماعية، والصناعة، والزراعة، والتجارة، وهيئة المساءلة والعدالة، إلى جانب شغله مقعداً نيابياً في غير دورة برلمانية. علماً أن عائلته بحكم زعامتها العشائرية، تمتلك موقعاً وتأثيراً اجتماعياً كبيراً. ولم تسجّل على السوداني أي شبهات فساد أو إساءة استغلال للمنصب والإثراء غير المشروع، وتميّز بالتواصل مع مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية -لاسيما البسيطة والمعدمة منها- والعمل لتوفير متطلباتها واحتياجاتها قدر الإمكان، فضلاً عن أنه لم يدخل في أي وقت من الأوقات في خصومات ومعارك سياسية مع أي طرف أو شخصية سياسية.
العامل الآخر المعزز لفرص نجاح السوداني، يتمثل في مساحة الدعم والتأييد الكبيرة له من مختلف القوى والكيانات والشخصيات السياسية في كل المكونات، إضافة إلى كل من الفضاء الإقليمي والدولي. ولا شك في أن الدعم والتأييد يشكّلان أرضية مناسبة جداً لوضع خريطة طريق صحيحة وقابلة للتطبيق ولو بنسب معقولة ومقبولة.
في مقابل ذلك، فإنه لا يُخطئ من يقول إن مهمة السوداني سوف تكون صعبة وعسيرة، وإن الطريق أمامه لن تكون معبّدة ومزروعة بالورد، فهناك تقاطع المصالح والإرادات الداخلية، وتعدّد أجندات ومصالح الفرقاء الإقليميين والدوليين، وهناك مراكز القوى المختلفة، وهناك حجم التركة الثقيلة من الفساد، وسوء الخدمات والتخبط وانعدام التخطيط، وهناك كثرة الاستحقاقات والفترة الزمنية القصيرة لإنجازها، وغيرها من الأمور.
ومثل تلك المسائل، قد لا تمنع من التقدم إلى الأمام بالمرة، بيد أنها يمكن أن تؤخّر وتعطّل وتعرقل، وعليه فإن تقويم نجاح أو إخفاق رئيس مجلس الوزراء الجديد و"كابينته" الوزارية، قد يحتاج إلى وقت، وكذلك إلى نظرة عامة وشاملة لمجمل حقائق ووقائع المشهد، السابقة منها والراهنة والمستقبلية، ليس المشهد العراقي فحسب وإنما المشهد الإقليمي، وحتى المشهد العالمي بتفاعلاته المحتدمة، وأحداثه الخطرة، وتبعاته المقلقة.