انتخاباتنا وانتخاباتهم
من المتوقع تقدم اليمين في ظل الأزمات التي تجتاح العالم، لأن الأزمة تدفع الشعوب إلى الانكفاء إلى الداخل والبحث عن الخلاص، ولو كان ذلك على حساب بعض المبادئ كالحرية والديمقراطية.
في عالم يتغيّر كل يوم، تأتي الانتخابات في أكثر من دولة بالجديد الذي يدفعنا إلى التأمل والبحث. في عام مليء بالانتخابات في أكثر من دولة، جاءت النتائج أقل ما يقال عنها إنها محيرة، إذ حملت في طياتها الكثير من المتناقضات التي تحتاج إلى الكثير من الدراسة، وخصوصاً في ظل السياسات التي ستنجم عنها.
جاءت نتائج الانتخابات البريطانية بمفاجآت عديدة، لعل أبرزها الخسارة القاسية التي لحقت بحزب المحافظين، والتي تعتبر الأقسى منذ عام 1832، وفوز حزب العمال بأغلبية كبيرة رغم خسارته المدوية في انتخابات عام 2019.
كانت خسارة حزب المحافظين متوقعة في ظل التخبط السياسي والاقتصادي لحكوماته، الذي عبّر عن نفسه بإثقال كاهل المواطنين البريطانيين بالضرائب وارتفاع نسب البطالة والتضخم وتفاقم مشكلات الرعاية الصحية والسكن، ما أدى إلى استقالة رئيسين للوزراء؛ بوريسجونسون وليز تروس.
لكن لا بد من الوقوف عند بعض الظواهر، مثل خسارة بعض المسؤولين في حكومة الظل العمالية أمام مرشحين من المسلمين أو المستقلين ممن خاضوا الانتخابات ببرامج سياسية تصدرها دعم الفلسطينيين والانتقاد الحاد للسياسة الخارجية البريطانية. هذا ما حدث في دوائر ليسر ساوث، وبلاكبيرن، وديوسبري باتلي، ودائرة ازلنغتون الشمالية التي فاز فيها السياسي جيرمي كوربن الزعيم السابق لحزب العمال، وذلك في مواجهة مرشح عمالي آخر.
في الانتخابات نفسها، خسر معظم القادة المحافظين الذين دعموا الخروج من الاتحاد الأوروبي من أمثال جاكوب ريس موج ومايكل جوف، لكن حزب الإصلاح اليميني المتطرف بزعامة نايجل فرّاج، الذي يعارض بشدة الاتحاد الأوروبي دخل البرلمان للمرة الأولى، وحصل على 13 مقعداً.
يرى بعض المحللين أن السياسة الخارجية لبريطانيا ساهمت في خسارة حزب المحافظين، ففي ظل ارتفاع معدلات التضخم والبطالة استمرت بريطانيا في تبعيتها للسياسة الخارجية الأميركية وأنفقت مليارات الدولارات على الأزمات الخارجية، سواء في أوكرانيا أو فلسطين، وذلك على حساب دافع الضرائب البريطاني.
رغم أن زعيم حزب العمال تجنّب الحديث عن السياسة الخارجية في خطابه الأول بعد تكليفه برئاسة الوزراء، فإنَّ إشارته إلى دور الجيش البريطاني في حماية حدود بريطانيا تحمل تلميحاً إلى نية حكومته الالتفات إلى الأزمات الداخلية وتخفيف مشاركتها في العمليات خارج الحدود، من دون أوهام بأن بريطانيا ستخرج من تحت العباءة الأميركية، إلا أن العقاب الذي أنزله الشعب البريطاني بحزب المحافظين سيدفع أي حكومة جديدة إلى مراجعة مجمل السياسات السابقة وتعديلها خشية التعرض لعقوبة مماثلة في الانتخابات القادمة.
في الوقت نفسه، كانت الانتخابات تجتاح أوروبا وتحمل في طياتها المتناقضات نفسها، فقد تقدم اليمين بشكل ملحوظ في انتخابات الاتحاد الأوروبي بحصوله على المركز الأول في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، والمركز الثاني في ألمانيا وهولندا، وهو ما جرى في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية.
في ظل هذا التوجه اليميني، استطاع النائب الفرنسي اليساري سيباستيان ديلوغو الفوز بمقعد في البرلمان من الدورة الأولى، وهو النائب الذي رفع علم فلسطين داخل قاعة البرلمان وعوقب بتعليق عضويته لمدة 15 يوماً.
جاءت النتائج النهائية للانتخابات بفوز تحالف اليسار برئاسة جان لوك ميلانشيون، وجاءت الجبهة الوطنية اليمينية في المركز الثالث، لكن هذا الفوز لم يكن حاسماً بشكل يسمح لليسار بتشكيل حكومة ذات أغلبية، فهو بحاجة إلى تشكيل تحالف مع تيارات من الوسط والخضر، وبغير ذلك يمكن لتحالف الرئيس ماكرون بالتحالف مع الجمهوريين وبعض الاشتراكيين تشكيل الحكومة المنتظرة، ما سيدخل فرنسا في فوضى سياسية لمدة سنة على الأقل، وهو الوقت الذي يحتاجه الرئيس ماكرون لحل الجمعية العمومية والذهاب إلى الانتخابات مرة أخرى.
من المتوقع تقدم اليمين في ظل الأزمات التي تجتاح العالم، لأن الأزمة تدفع الشعوب إلى الانكفاء إلى الداخل والبحث عن الخلاص، ولو كان ذلك على حساب بعض المبادئ كالحرية والديمقراطية. هذا ما يحدث في أوروبا وأميركا الجنوبية، حين فاز اليميني المتطرف خافيير ميلي برئاسة الأرجنتين، ونجيب بقيلة برئاسة السلفادور.
يبقى السؤال عن إمكانية استمرار هذا التوجه اليميني القائم كظاهرة تعيد الإنسانية عقوداً إلى الوراء. أزعم أن هذا الانحدار نحو اليمين لن يتمكن من العيش في عالم اليوم، لكنه يشكل أداة لهدم النظام السائد، تمهيداً لولادة عالم جديد بشروط جديدة قد تكون أكثر عدالة.
في الجانب آخر من العالم، مرت الانتخابات الإيرانية بسلاسة لافتة، وبنتائج أكدت رسوخ الديمقراطية في بنية الدولة والمجتمع الإيرانيين، وأن الديمقراطية بشكلها الليبرالي ليست الخيار الوحيد أمام الشعوب القادرة على إنتاج ديمقراطيتها الخاصة الأكثر تناغماً مع ثقافتها وبنيتها الاجتماعية والسياسية، في الوقت الذي تنتج الديمقراطية الليبرالية في أوروبا تيارات متطرفة مثل حزب الحرية اليميني في هولندا الذي يقوده المتطرف اليميني خيرت فيلدرز الذي قال في أحد كتبه: "إسرائيل هي خط الدفاع الأول عن الغرب. هذا ليس صراعاً حول الأرض، بل معركة أيديولوجية بين عقلية الغرب المتحررة وأيديولوجيا الإسلام الهمجية".
لقد جاء انتخاب المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان ضربة قاصمة لكل خصوم إيران الذين لم يتركوا فرصة لاتهام الانتخابات بأنها صورية ومفبركة، وأن الشعب الإيراني لا يمتلك حرية اختيار مرشحيه. كانت الدوائر المعادية تنتظر فوز المرشح المبدئي لتستمر في حملة التشكيك.
ورغم أن اللحظة السياسية التي تتميز بالاشتباك المباشر بين إيران ومعسكر أعدائها كانت ترجح فوز التيار المحافظ، فإنَّ الشعب الإيراني قال كلمته بحرية ووضوح، واختار المرشح الذي يعتقد بقدرته على تحقيق طموحاته بحياة أفضل من خلال عملية إصلاح داخلي وخارجي قائمة على التشارك والتعاون والانفتاح على الآخرين.
لم ترق النتائج لخصوم إيران، فأطلقوا حملة ادعاءات وافتراءات حول تخلي الرئيس الجديد عن حلفاء إيران التاريخيين، وخصوصاً محور المقاومة، لكن المتابع لسياسة إيران يعلم تماماً أن تلك الأوهام ليست سوى "فرقعة" إعلامية الهدف منها إبعاد الأنظار عن كذب ادعاءاتهم التي سبقت الانتخابات.
في المقارنة بين انتخابات إيران وانتخابات أوروبا نتعلم درساً مهماً، فالشعوب لا تحتاج إلى تبني ثقافة المستعمر وأدواته لتصنع مستقبلها وتعزز استقلالها وسيادتها الوطنية. كل ما علينا أن نفعله أن نكون أنفسنا، وأن نستنبط وسائلنا الخاصة لنصنع ديمقراطيتنا، عندها.. وعندها فقط سنجد مكاننا الحقيقي تحت شمس العالم القادم.