الوجود الأميركي في العراق.. اختلاف المسمّيات ليس إلا!

يصف الجنرال برينان بقاء القوات الأميركيّة في العراق بعد موعد الانسحاب المقرّر بـ"المرحلة الجديدة" الّتي ستمارس خلالها تلك القوات مجموعة من المهام الجديدة.

  • استمرار وجود قوات
    استمرار وجود قوات "الناتو" يعدّ ثغرة حقيقية في جسد السيادة الوطنية العراقية

وفقاً للاتفاق المبرم بين رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والرئيس الأميركي جو بايدن، خلال زيارة الأول لواشنطن في أواخر شهر تموز/يوليو الماضي، يفترض أن تجلي الولايات المتحدة قواتها القتالية من الأراضي العراقية في نهاية العام الجاري.

وفي 26 تموز/يوليو تحديداً، أعلن الرئيس بايدن "أن الولايات المتحدة ستنهي بحلول نهاية العام مهمّتها القتالية في العراق، لتباشر مرحلة جديدة من التعاون العسكري مع هذا البلد، ولن نكون مع نهاية العام في مهمة قتاليّة، لكن تعاوننا ضد الإرهاب سيتواصل حتى في هذه المرحلة الجديدة التي نبحثها، وأنَّ الدور الأميركي في العراق سيتحوَّل إلى تقديم المشورة والتدريب". 

لا شكّ في أنَّ هناك فرقاً كبيراً جداً بين الانسحاب والجلاء الكامل وتغيير المهام، وهذه هي النقطة الجوهرية الحساسة التي شغلت حيزاً كبيراً من الجدل والسجال طيلة الشهور الخمسة المنصرمة. ويبدو أنَّها سوف تشغل حيزاً أكبر في المرحلة المقبلة ارتباطاً بإيقاع تطورات الوقائع والأحداث ومستجداتها. 

عراقياً، من المهمّ جداً الإشارة إلى جملةٍ من الأمور، لا يمكن في أيِّ حال من الأحوال تجاهلها والتغافل عنها عند قراءة حقيقة حراك الشهور الماضية وآفاقه ومخرجاته، سواء الجماهيري والسياسي والإعلامي غير الرسمي أو الرسمي وراء الكواليس وخلف الأبواب الموصدة.

أولاً: كان من بين المهام المطلوبة من رئيس الوزراء الحالي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، حين تمَّ اختياره خلفاً لعادل عبد المهدي في صيف العام 2020، إنهاء التواجد الأجنبي، أو بعبارة أوضح الاحتلال الأميركي. ولم يكن حديث الداعين إلى ذلك متّجهاً أو متمحوراً حول ما يُسمى بتغيير مهام القوات الأميركية، بقدر ما كان متركزاً على مغادرتها بالكامل.

ثانياً: طيلة العام الماضي، وكذلك الجزء الأكبر من هذا العام، تعرَّضت السفارة الأميركيّة في بغداد والقواعد العسكرية التي تتواجد فيها القوات الأميركية في بغداد والأنبار وأربيل وصلاح الدين لهجمات بصواريخ الكاتيوشا والهاونات والطائرات المسيّرة، ناهيك بالاستهداف المتواصل للأرتال العسكرية واللوجستية الأميركية على الطرق الخارجية بين المحافظات. وكان كلّ ذلك عبارة عن رسائل ضمنيّة، وربما رآها البعض رسائل صريحة تطالب بإنهاء الاحتلال، وتؤكد أن لا خيار يمكن قبوله سوى هذا الخيار.

ثالثاً: بعد ارتفاع وتيرة الهجمات المشار إليها آنفاً، وما سبّبته من ضغط كبير على الأميركيين، وحرج بالمستوى نفسه على الحكومة العراقية، نجحت بعض الجهات في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2020 بإقناع الفصائل التي تقف وراء تنفيذ الهجمات، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بالموافقة على هدنة مشروطة حتى نهاية العام الجاري، حيث موعد الانسحاب والجلاء الأميركي المقرر.

وفي حينه، أكَّد المتحدث باسم كتائب حزب الله، محمد محيي، "أنَّ الاتفاق على تعليق الهجمات على أهداف أميركية يشمل كلّ فصائل المقاومة في العراق، وخصوصاً تلك التي ربما تستهدف أيضاً القوات الأميركية، وأنَّ هذه الهدنة المشروطة تأتي بهدف منح الحكومة العراقية الوقت لطرح جدول زمني لانسحاب قوات الولايات المتحدة من البلاد، وفقاً للقرار الذي تبناه مجلس النواب في كانون الثاني/يناير 2020، على خلفية اغتيال الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في بغداد".

هناك رأي عام مدعوم ومعزّز بمواقف ورؤى طيف سياسي واسع من مختلف المكونات السياسية والمجتمعية والثقافية العراقية بأنّ كمّاً هائلاً من المشاكل والأزمات والمآسي والويلات التي حلَّت بالعراق تقف الولايات المتحدة الأميركية وراءه وتتحمّل مسؤوليّته، سواء عن قصد أو من دون قصد. هذا الرأي العام المعزّز بالمواقف والرؤى السياسيّة يقول إنَّ الأمور بعد مغادرة الأميركيين لن تكون أسوأ مما كانت عليه في ظلِّ وجودها.

واللافت هنا أنَّ أوساطاً سياسيّة ووسائل إعلام ومنظمات حقوق غربية، وأميركية على وجه الخصوص، تتحدَّث عن أخطاء وجرائم وتجاوزات وانتهاكات ارتكبتها القوات الأميركية في العراق وغيره. 

وما نشرته قبل بضعة أيام صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية من وثائق لوزارة الدفاع (البنتاغون)، يشكّل ربما نزراً يسيراً مما قامت به الولايات المتحدة الأميركية واقترفته. ومن بين ما ذكرته الصَّحيفة، أنَّ وثائق البنتاغون الجديدة كشفت أنّ ضربات القوات الأميركية أوقعت آلاف القتلى المدنيين، بينهم أطفال كثر، وأنّ التعهّدات بالشفافية والمساءلة بقيت غالباً من دون تنفيذ، ولم يخلص، ولو سجلّ واحد، إلى خطأ ارتُكب أو إلى إجراء تأديبي.

ورغم الاعترافات الرسمية الأميركية بتسبّب العمليات العسكرية بمقتل مدنيين في العراق وسوريا وأفغانستان، وإلحاق أضرار بالبنى والمنشآت المدنية الخدميّة، فإنّ الأرقام المعلنة أقل بكثير من الأرقام الحقيقية، كما تؤكد الكثير من التقارير. 

أميركياً، وفي مقابل ذلك كلّه، لا تتحدّث واشنطن عن انسحاب، إنما عن تغيير مهام القوات الأميركية من القتال إلى التدريب والاستشارة والتمكين. هذا يعني أنَّ مجمل إعداد القوات وعددها ومواضع تمركزها لن يتغيّر. وفي حال طرأ عليها أي تغيير، فسيكون طفيفاً وشكلياً.

مثل هذا الكلام ليس جديداً. وإذا كان يرد اليوم على لسان شخصيات سياسية أو عسكرية أو استخبارية أميركية، فهو إنّما يأتي في سياق تأكيد الشيء لا نفيه؛ ففي أواخر شهر نيسان/أبريل الماضي، خرج رئيس قيادة القوات المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي بتصريح لوسائل الإعلام، كشف فيه عن عدم وجود خطّة للانسحاب من العراق، كما هو حاصل مع أفغانستان، وأكثر من ذلك، أكّد أنّ "الولايات المتّحدة لن تخفض عدد قواتها في العراق، بناءً على رغبة الحكومة العراقيّة في بغداد، وقد تزيدها". 

وبعد زيارة الكاظمي لواشنطن في تموز/يوليو الماضي، صرح السفير الأميركي في بغداد، ماثيو تولر، قائلاً: "إنَّ الوجود العسكري الأميركي الحالي في العراق جاء بناءً على دعوة من الحكومة العراقية في العام 2014. ورغم تحرير جميع الأراضي من سيطرة تنظيم داعش، ما يزال التّهديد الذي يشكّله التنظيم الإرهابي للعراق وللشعب العراقي قائماً، وما تزال هناك حاجة لقيام التحالف بمساعدة القوات العراقية التي تقوم بالتصدي لداعش ودحره وضمان استمرار هزيمته".

وإذا اقتربنا أكثر فأكثر من موعد الانسحاب (31 كانون الأول/ديسمبر 2021)، سنجد تصريحات أميركيّة واضحة للغاية لا يشوبها أيّ لبس أو غموض، فهذا قائد قوات مكافحة تنظيم "داعش" في العراق الجنرال الأميركي جون بيرنان، يقول خلال مؤتمر صحافي عقده في 9 كانون الأول/ديسمبر الحالي، "إنَّ القوات الأميركيّة لن تنسحب من العراق، وستبقى لممارسة مهامّ عملها الجديدة التي أُنيطت بها، وإن الأوامر الأميركية من البيت الأبيض تضمّنت تغييراً في مهمة هذه القوات، وليس سحبها من العراق".

ويصف الجنرال برينان بقاء القوات الأميركيّة في العراق بعد موعد الانسحاب المقرّر بـ"المرحلة الجديدة" الّتي ستمارس خلالها تلك القوات مجموعة من المهام الجديدة، تتمثّل بدعم القوات العراقية وتدريبها وتطويرها، ويؤكّد "أنَّ بقاء هذه القوات يأتي بطلب رسمي مباشر من الحكومة العراقية في بغداد".

يذهب المتحدّث الرسمي باسم وزارة الدفاع (البنتاغون) جون كيربي أبعد من ذلك، عبر تصريحات أدلى بها لصحيفة "ذا هيل" الأميركية قبل أسبوعين، جاء فيها: "إنَّ القرار الأميركي بإبقاء القوات يأتي بعد إنهاء المحادثات مع بغداد، إذ إن بقاء هذه القوات يحظى بدعم وموافقة من الحكومة في بغداد، وعددها الذي سيبقى في العراق بعد الانسحاب لن يتغير نهائياً"، إذ ستحتفظ الولايات المتحدة بالعدد الحالي من الجنود، والبالغ 2500 جنديّ أميركيّ، إضافةً إلى المتعاقدين العسكريين مع الشركات الأميركية الأخرى.

ويضيف كيربي: "إنّ الأوامر التي وردت تتمثّل بتغيير المهمّة القتالية للقوات الأميركية إلى مهمة دعم وإسناد فقط. هذا يعني أنَّ التّغيير يشمل طبيعة المهمّة، وليس طبيعة حجمها أو عدد القوات المطلوبة لها حتى الآن، والأمور لا تسير بطريقة كسر نمط عمل القوات الأميركية في العراق وسحبها كلياً فجأة، ومن دون سابق إنذار"، معتبراً "أن الاتفاق الذي أُبرم بين بايدن والكاظمي لم يتضمّن أيَّ حديث عن سحب القوات الأميركية من العراق، بل إنَّ الاتفاق تضمّن تغيير مهام تلك القوات فقط".

إلى جانب ذلك، فإنَّ مختلف مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية القريبة من مراكز القرار في واشنطن لم تتوقف عن التحذير من مخاطر الانسحاب العسكري من العراق وتبعاته، وتعتبر أنَّ إنهاء الوجود الأميركي في العراق لن يضمن أمنه واستقراره، بل قد يدعم ما تبقى من عناصر تنظيم "داعش"، ويعرقل محاربة الفصائل والكيانات القريبة من إيران. 

وارتباطاً بتداعيات الانسحاب من أفغانستان، ترى مراكز الأبحاث والدراسات أنَّ انسحاب أميركا قد يقوّض مصداقيتها في شراكاتها الأمنية العالمية، بما فيها شراكاتها في الشرق الأوسط. كما أنَّ طبيعة الانسحاب المشوبة بالاضطرابات تسلّط الضوء على التّكاليف المترتّبة على إنهاء الالتزامات الجارية. وعلى إدارة بايدن التركيز على الخطط القابلة للتنفيذ والداعمة للشركاء في الشرق الأوسط، على غرار إطلاق البرامج المشتركة أو تعزيز التعاون في المجال السيبراني. وفي العراق بشكل خاص، أكّدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مصلحةً مشتركةً في تحقيق الأمن والاستقرار عبر مهام التدريب والتجهيز وتكثيف وجود الناتو.

ولعلَّ هناك قناعةً وإدراكاً لدى العديد من النخب والفاعليات السياسية والثقافية والأكاديمية العراقية بأنَّ الولايات المتحدة الأميركية لن تغادر العراق بصورة فعليّة وحقيقيّة. وقد ترسّخ ذلك بقدر أكبر قبل عدة شهور، بعدما انتهت الحوارات بين الكاظمي والوفد الكبير المرافق له مع الإدارة الأميركية إلى الاتفاق على تحويل المهام القتالية للقوات الأميركية إلى مهامّ استشارية وتدريبية ولوجستية، وهذا يعني بقاءها واستمرار الاحتلال إلى أمد غير معلوم، ناهيك بالتحكّم في الأجواء، وفي مفاصل أمنيّة واقتصاديّة حيوية، تحت عنوان الدعم والإسناد اللوجستي والاستشاري، إلى جانب التذكير بأنَّ مهام التدريب والاستشارة والتمكين ربما تنطوي على مخاطر تستهدف الأمن القومي للبلاد أكبر من المخاطر المترتبة على المهام القتالية، لأنَّ الأولى تتيح الاطلاع والإحاطة بكلّ التفاصيل والجزئيات في مختلف المفاصل والمؤسَّسات الأمنية والعسكرية، وبالتالي جعل البلد مكشوفاً بالكامل، وعرضةً لمختلف المشاريع والأجندات الخارجية. 

إضافةً إلى ذلك، إنَّ استمرار وجود قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تعتبر الولايات المتحدة العضو الأكبر والأقوى والأكثر تأثيراً فيه، يعدّ ثغرة حقيقية في جسد السيادة الوطنية العراقية، ونوعاً من الالتفاف الذي يتيح لواشنطن الحفاظ على وجودها المتعدّد الأشكال والمظاهر، تحت عناوين ومسميات أخرى.

لا شكَّ في أنّ تغيير المهام، وتغيير العناوين واليافطات والإعلام والمواقع والأزياء، مع بقاء المشاريع والأجندات نفسها، لن يمرّ بسلام، لأنَّ الأمور لم تعد تقرأ بظواهرها العابرة، بل ببواطنها الغائرة!