الهدنة في غزة.. حسابات الربح والخسارة

إن المناشدات بضرورة "تطبيق القانون الدولي" ليست سوى ضياع للبوصلة، فالصراع مع "إسرائيل" هو "صراع فوق قانوني"، ما دامت كياناً لا يعير أي اهتمام للقانون الدولي، ولا تعتبر نفسها معنية بتطبيقه.

  • لماذا قبلت
    لماذا قبلت "إسرائيل" التفاوض مع حركة حماس؟

لم يعد الحديث الصهيوني عن "اجتثاث حماس" أمراً ممكناً، فحماس لم تعد مجرد حركة سياسية، بل باتت ثقافة مجتمعية ثابتة ومترسخة في وجدان كل مواطن عربي. هذا الكلام بات يندرج ضمن ما يمكن تسميته "العقلانية السياسية"، لا العاطفة والانحياز، كما قد يبدو للبعض.

إن انتصارات الميدان خير دليل وشاهد على حالة التماهي بين عناصر الحركة وباقي أفراد الشعب الفلسطيني، وهو ما أجبر حكومة الاحتلال على إعادة النظر في سقف ما يمكن تحقيقه من عمليتها العسكرية التي بات الكثير من أحرار العالم ينادون بضرورة وضع حد لها.

لذا، تم التوصل مؤخراً إلى هدنة إنسانية مؤقتة (لمدة 4 أيام) للحرب الدائرة في قطاع غزة، جرى خلالها تبادل للأسرى وإدخال للمواد الطبية والغذائية إلى القطاع الذي يتعرض لأبشع الجرائم الصهيونية منذ نحو 50 يوماً.

شكَّل التوصل إلى هدنة انتصاراً كبيراً لحركة حماس على حكومة الاحتلال الصهيوني التي أعلنت منذ اليوم الأول للحرب رفضها التفاوض مع الحركة، واصفة إياها بـ"الإرهابية".

وسعى الرئيس الأميركي إلى شيطنة حماس عبر تشبيهها بتنظيم "داعش" الإرهابي، في محاولة منه لحشد تأييد دولي لمقاتلتها (في محاولة لمحاكاة ما حدث في الحرب الدولية ضد تنظيم "داعش"). تلك المحاولة –لو نجحت- كان الهدف منها تحويل حركة حماس من "حركة تحرر ومقاومة وطنية" إلى "تنظيم جهادي إسلامي" يشبه تنظيم "القاعدة" في حينه.

لكن العالم تغير، وبات هناك من يستطيع محاججة الإدارة الأميركية ويكشف ادعاءاتها ويفضح أكاذيبها، وهو ما جعل بايدن يتراجع عن اتهاماته لحماس بـ"قطع رؤوس الأطفال في إسرائيل". 

لذا، إن مجرد التفاوض مع حركة حماس يشكل انتصاراً سياسياً للحركة وتراجعاً صهيونياً عن سقف المطالب المرتفع الذي وضعته حكومة الاحتلال، والذي سعت إلى تنفيذه من خلال هجومها التدميري الكبير على قطاع غزة.

كما أن العودة إلى المفاوضات طريقاً لإطلاق سراح الأسرى الصهاينة يشكل فشلاً كبيراً لحكومة الاحتلال التي كانت قد أعلنت نيتها استعادة الأسرى بالقوة أو الاستعداد لقتلهم لو اقتضى الأمر ذلك، فالمهم كان ألا تخضع لشروط حماس.

إطلاق سراح الأسرى عن طريق المفاوضات سيشجع أهالي الأسرى الآخرين على السعي للضغط على حكومة نتنياهو للقيام بالمزيد من المفاوضات لاستعادة أبنائهم، بعدما ثبت فشل الخيار العسكري في استعادتهم. وبالتالي، المزيد من الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي الذي ينادي غالبيته بضرورة استعادة هيبة "إسرائيل" و"سحق حركة حماس"، وبين أهالي الأسرى الذين يضغطون لوقف العمليات القتالية والبدء بالمفاوضات لاستعادة أبنائهم.

لماذا قبلت "إسرائيل" التفاوض مع حركة حماس؟

بعد مرور أكثر من شهر ونصف شهر على بدء العمليات العسكرية في غزة، لم تسحق حركة حماس، ولم يتوقف دوي صفارات الإنذار داخل الكيان الصهيوني، ولم تتم استعادة أي أسير بالقوة، وهو ما يؤكد فشل الوعود التي قطعتها حكومة نتنياهو على نفسها أمام الرأي العام الإسرائيلي والدولي.

إضافة إلى الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تكبدتها "إسرائيل" نتيجة لتداعيات الحرب وغياب الأمن والاستقرار، ونتيجة لنفقات الحرب المرتفعة، نظراً إلى غزارة التدمير ووحشيته. وإلى الانقسامات داخل حكومة الحرب الصهيونية وخيبة الأمل لدى الرأي العام وفقدانه الثقة بحكومة نتنياهو المتطرفة والفاشلة على أقل تقدير.

إضافةً إلى التغير في المزاج العام الدولي والمواقف الرسمية التي كانت في البداية مؤيدة لـ"إسرائيل"، لكنها ما لبثت أن تراجعت بعد ما ارتكبته "إسرائيل" من جرائم على مرأى العالم ومسمعه.

ولعل آخر هذه المواقف كان الموقفين الإسباني والبلجيكي اللذين دانا الحرب في غزة، ودعت الدولتان "إسرائيل" إلى وقف مجازرها بحق الشعب الفلسطيني، وهو ما تسبب بأزمة دبلوماسية بين الدولتين وحكومة الاحتلال.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أهمية الموقف الإسباني، فإسبانيا هي الدولة التي استضافت مؤتمر السلام بين العرب و"إسرائيل" عام 1991، والذي تمخضت عنه اتفاقيتا أوسلو ووادي عربة.

هذان الموقفان سوف يؤثران بشكل كبير في باقي المواقف الأوروبية، وبالتالي التغير في موقف الاتحاد الأوروبي ككل، وخصوصاً أن أوروبا باتت تخشى توسع الحرب وانتقالها لتهديد طرق التجارة الدولية.

الموقف الأميركي الداعم لحكومة الاحتلال حد التطرف بدأ أيضاً بالتراجع نظراً إلى حجم نفقات الحرب المرتفع جداً، وعدم قدرة الولايات المتحدة على تأمين احتياجات "إسرائيل" من القذائف التي تتشابه مع ما تحتاجه أوكرانيا في حربها التي باتت "منسية" مع موسكو.

كما أن حماسة بايدن بدأت تخف في ظل اقتراب العام الانتخابي في الولايات المتحدة، والذي باتت استطلاعات الرأي فيه تشير إلى تراجع شعبية بايدن لمصلحة منافسه ترامب.

أما الدول الأوروبية، فقد باتت مكرهة على إعادة النظر في موقفها من الحرب بعد موجة الاحتجاجات الكبيرة التي شهدتها المدن والساحات الأوروبية، والتي عبرت عن حدوث وعي لحقيقة ما يجري من أحداث في غزة.

ولعل الحدث الأهم والأكبر على مستوى العالم كله هو "تخلي العديد من يهود العالم عن صهيونيتهم" التي تشكلت نتيجة لأكاذيب تاريخية نجحت "إسرائيل" في تلفيقها والترويج لها.

لقد أدرك هؤلاء أن العرب والمسلمين ليس لديهم مشكلة مع اليهود، كما أن يهود المنطقة العربية لم يتعرضوا للظلم والاضطهاد أو الإحراق الذي تعرض له يهود الدول التي تنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

وكان قيام أنصار الله باحتجاز سفينة تعود ملكيتها لـ"إسرائيل"، وتعرض سفينة حاويات يمتلكها رجل أعمال صهيوني لاعتداء بطائرة مسيرة في المحيط الهادي حدثين فارقين في تطور مجريات الحرب واحتمالات توسعها، وبات الحديث عن "حرب المضائق" أقرب إلى الواقع.

حرب المضائق تهدد طرق التجارة الدولية وتنذر باشتعال أسعار النفط التي ستكون الدول الأوروبية الخاسر الأكبر منها، وخصوصاً أن فصل الشتاء بات على الأبواب. وفي ظل الهدنة الجارية في قطاع غزة، ظلت المواجهات مع الكيان الصهيوني مستمرة على باقي الجبهات، وهو ما يشير إلى احتمال توسع الحرب بشكل كبير، رغم محاولة جميع الأطراف الحيلولة دون ذلك (باستثناء "إسرائيل" التي تقتضي مصلحتها ذلك).

احتمال توسع الحرب يبقى قائماً، وقد لا يكون نتيجة قرار يتخذ، بل نتيجة حدث ما قد يحدث في الميدان، حتى لو كان حدوثه عن طريق الخطأ.

المساعي العربية والإسلامية والدعم الدولي

قامت اللجنة الوزارية (المنبثقة من القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض) بزيارة عدد من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لشرح الموقف العربي والإسلامي الداعي إلى وقف الحرب على غزة، ودعوة الدول دائمة العضوية إلى القيام بدورها في الضغط على "إسرائيل" لوقف ما ترتكبه من مجازر بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.

كانت البداية من الصين، في رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة بأنها باتت عاجزة عن أداء دور الوساطة بعدما فقدت الأطراف العربية والإسلامية الثقة بها، نتيجة انحيازها الكبير والفاضح إلى "إسرائيل"، وتأكيداً على ثقة الدول العربية والإسلامية بالصين، وتقديرهم للموقف الصيني الداعم للقضية الفلسطينية، ورغبتهم في أن تؤدي الصين دوراً سياسياً أكبر، ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم كله أيضاً.

وكان موقف منظمة البريكس متقارباً جداً مع موقفي الصين وروسيا. وقد شكل بداية لتموضعات جديدة واصطفافات دولية تعبر عن حتمية زوال نظام الأحادية القطبية، بعدما ثبت عجزه عن إيجاد حل للمشكلات الدولية العالقة.

والتقى الوفد وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، الذي أكد "أهمية السماح للمؤسسات الإنسانية بجلب المزيد من الوقود إلى غزة، حتى تتمكن من القيام بعملها في إنقاذ حياة السكان من دون عوائق"، وجرت "مناقشة كيفية ضمان إطلاق سراح جميع الرهائن، وكيفية زيادة حجم المساعدات لغزة، وسبل إيجاد حل سياسي طويل الأمد للأزمة".

وجرت "مناقشة كيفية تنشيط الجهود الدبلوماسية لتحقيق مبدأ حل الدولتين الذي يوفر الأمن لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين"، إذ أكَّد كاميرون "إدانة بريطانيا تزايد عنف المستوطنين في الضفة الغربية"، وتعهد "العمل بشكل وثيق مع الدول الإسلامية بشأن الصراع الدائر بين إسرائيل وغزة".

تلك المواقف تعكس تغيراً في الموقف الأوروبي الداعم والمنحاز إلى "إسرائيل"، مع الإشارة إلى أن هذا التغير ليس ناتجاً من الاعتبارات والمعايير القيمية والأخلاقية، لكنه يعود إلى قراءة عقلانية لمتغيرات المشهد الدولي وتأثيرات الأحداث الجارية في غزة.

إبادة على الطريقة الأميركية

ما قامت به "إسرائيل" من جرائم ليس حدثاً غريباً في التاريخين الأميركي والأوروبي، فأميركا قامت على أنقاض السكان الأصليين الذين قتلهم المهاجرون الأوروبيون، بعدما وصفتهم الكتب الإنكليزية بأنهم "وحوش لا تعقل"، وقالت إنهم "يأكلون زوجاتهم وأبناءهم" (وهو ما يذكرنا بوصف "إسرائيل" للفلسطينيين بالحيوانات).

هذه النظرة الاستعلائية والاستعمارية كان الهدف منها تبرير الإبادة الهمجية التي ارتُكبت ضد سكان الأرض، وسميت لاحقاً بـ الولايات المتحدة الأميركية. كما أن فرنسا التي قادت عصر التنوير الأوروبي قتلت في الجزائر وحدها أكثر من 10 ملايين شخص. 

ما حدث في غزة لم يكن سوى إبادة جماعية تمت بناء على الضوء الأخضر الأميركي، والدعم اللامحدود للكيان الصهيوني، والتعاطف الكبير الذي أبداه الرئيس بايدن مع الصهاينة، حين عبر عن صهيونيته وذرف دموعه "الانتخابية" اللازمة لضمان حصوله على التأييد الصهيوني في الانتخابات. 

إن المناشدات بضرورة "تطبيق القانون الدولي" ليست سوى ضياع للبوصلة، فالصراع مع "إسرائيل" هو "صراع فوق قانوني"، ما دامت كياناً لا يعير أي اهتمام للقانون الدولي، ولا تعتبر نفسها معنية بتطبيقه.

ويبقى أهم سؤال: ماذا بعد الهدنة؟ وقبل ذلك، هل تلتزم "إسرائيل" فعلاً بالهدنة وتطبقها؟ أعتقد أن ما يحدد الإجابة عن هذين السؤالين هو صمود حماس أولاً، وثبات محور المقاومة من خلفها وتماسكه والتزامه باستراتيجية "وحدة الساحات" ثانياً. هذا الثبات والتماسك سينعكس على الموقفين العربي والدولي من مجريات الأحداث في غزة. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.