الهجوم على رفح... تداعيات ونتائج مفترضة
مع حتمية تحقق السيناريوهات نفسها التي حصلت في خان يونس وقبلها في مدينة غزة وشمال القطاع لناحية عدم إمكانية تحقيق هدف إطلاق الأسرى أو القضاء على قادة المقاومة، سيصبح الثمن المفترض الذي سيدفعه الكيان في أي صفقة مستقبلية باهظاً.
لم يكن التحضير الإسرائيلي للدخول إلى رفح عادياً، إذ ظهر مختلفاً من حيث الشكل عن سائر العمليات العسكرية التي شنّها الكيان الإسرائيلي منذ بدء عدوانه على غزة بعد "طوفان الأقصى".
فحديث رئيس حكومة الكيان عن أهمية الدخول إلى رفح كآخر معاقل حركة المقاومة، مع ما يعنيه هذا الأمر من إمكانية تحقيق إنجاز يتخطى في أهميته ما يدّعي "الجيش" أنه حققه منذ "طوفان الأقصى"، لا يقدم صورة واضحة لحقيقة التركيز الإعلامي على هذا الاستحقاق، وذلك انطلاقاً من عدم توفر معطيات وأدلة تدعم رؤية رئيس حكومة الكيان، إذ لم تثبت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إمكانية الوصول إلى قادة حماس أو الأسرى من خلال اجتياح هذه المنطقة، بالإضافة إلى فقدان الدعم الدولي الذي تحوّل من تضامن معنوي مع الكيان بعد أحداث السابع من أكتوبر إلى تنديد وقلق من عدم مراعاة "الجيش" الإسرائيلي لقوانين الحرب، وكذلك من حجم المذابح والمجازر التي ارتكبها بحق المدنيين العُزل.
ففي ظل عدم قدرة حلفاء الكيان على تحمّل العبء المعنوي الذي سبّبه العدد الكبير للشهداء والجرحى الفلسطينيين، والذي ظهر غير متناسب مع ما تعرض له الكيان الإسرائيلي يوم باغتته المقاومة في 7 أكتوبر، بالإضافة إلى عدم قدرة دول التطبيع والوسطاء العرب على تبرير صمتهم وموقفهم السلبي في لحظة تنتشر تظاهرات التنديد بالإبادة الجماعية في الجامعات الأميركية والعالمية كالعدوى التي لا تجد من يحد منها، جاء الموقف الإيجابي من مقترح الهدنة الذي أعلنته حركة المقاومة الإسلامية ليزيد على هذه العملية تعقيدات تجعل من الضروري تقدير نتائجها في حال استمر الكيان في إصراره على القيام بها.
فبالاستناد إلى تجاربه السابقة التي أعقبت الإعلان عن مشروعه باحتلال كامل القطاع وإحكام سيطرته الأمنية والعسكرية على كامل مساحته الجغرافية، انسحب "الجيش" الإسرائيلي في بداية شباط/فبراير الماضي من مدينة غزة وشمال القطاع، ثم انسحب بعد ذلك من خان يونس وأكثر مناطق جنوب القطاع واكتفى بالتمركز في بعض المناطق الحساسة من دون أن يقدّم دليلاً على تحقيقه أياً من الأهداف التي وضعها في بداية المعركة، إذ افتقرت تصريحات الناطق باسم "الجيش" الإسرائيلي حول تحقيق هدف العمليات العسكرية إلى أي دليل ملموس.
فالمدقق في ما يُعرض في وسائل الإعلام الإسرائيلية لا يلمس دليلاً يؤكد ذلك الارتياح الذي يعبّر عن نجاح العمليات العسكرية، إذ إن آخر الأسرى الذين أطلق سراحهم كانوا جزءاً من صفقة الهدنة التي أبرمت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، من دون أن نهمل تسليم هذه الوسائل بفشل "الجيش" في القضاء على المقاومة أو بالحد الأدنى إضعافها إلى مستوى يجعلها غير قادرة على إدارة المعركة في مناطق وجود "الجيش" الإسرائيلي. وبالتالي، تطرح في هذا الإطار إشكالية تتعلق بمدى قدرة "الجيش" الإسرائيلي على تحقيق نتائج فارقة في هذه المرحلة التي باتت فيها المقاومة أكثر قدرة على التأقلم مع الظروف الميدانية بسبب ثقتها بإمكانية استيعاب الهجوم الإسرائيلي المرتقب لأسباب ترتبط بنجاحها في الصمود طوال أكثر من سبعة أشهر من جهة، وفقدان "الجيش" الإسرائيلي إلى العزم والدافع بسبب الانقسام الداخلي الإسرائيلي والفشل في المراحل السابقة من جهة أخرى.
في إطار آخر، تفرض تفاعلات الدخول إلى رفح داخل الكيان أوضاعاً غير مؤاتية لتحقيق إجماع حول ضرورة أو أهمية هذه العملية في هذه المرحلة. فإذا كان افتراض رئيس الحكومة الإسرائيلية حول وجود أغلب الأسرى الإسرائيليين في منطقة رفح، بالإضافة إلى إمكانية أن يكون تقديره صحيحاً لناحية وجود أغلب القيادات العسكرية للمقاومة في هذه المنطقة، فإن ذلك سيجعل من أي عمل عسكري إسرائيلي في هذه المنطقة مصدر خطر يؤثر في قدرات "الجيش" الإسرائيلي الردعية والأمنية.
فالتمركز المفترض لقادة المقاومة في رفح سيُترجم حتماً كثافةً عددية لعديد المقاومة بحيث تُترجم هذه الكثافة العددية إصراراً على عدم الاستسلام، وتركيز الجهود على إلحاق الضرر الكبير بالقوات المهاجمة على اعتبار أن هذه المعركة هي آخر أكبر المعارك في القطاع، وبالتالي ستعكس من خلال نتائجها تغييراً دراماتيكياً في النظرية الأمنية والردعية لقوى المقاومة في المرحلة المقبلة.
أما على مستوى التفاعلات الشعبية والتجاذبات السياسية داخل الكيان، من حيث تضخم حجم التظاهرات المطالبة بالذهاب إلى تسوية لإطلاق الأسرى على حساب استكمال العملية العسكرية في رفح من ناحية، وتهديد اليمين المتطرف بالانسحاب من الائتلاف الحاكم وإسقاط الحكومة إذا اختار رئيسها خيار التسوية على حساب الحرب من ناحية أخرى، وقعت القيادتان السياسية والعسكرية في مأزق لا تبدو لحظة نهايته في المدى المنظور.
فبعد أن كانت العملية العسكرية التي شنّها الكيان الإسرائيلي على غزة بعد "طوفان الأقصى" محط إجماع كل الإسرائيليين نتيجة قناعة بأن ما يملكه "الجيش" من قدرات سيؤدي إلى تحقيق كل الأهداف التي أعلنها رئيس الحكومة بفاعلية وبسرعة قياسية، نجحت المقاومة، من خلال صمودها من دون أن ننسى أثر جبهات الإسناد في البيئة الداخلية الإسرائيلية من جهة أخرى، في تفتيت الجبهة الداخلية وتقسيمها عمودياً بين داعم لاستمرار الحرب وداع إلى وقف القتال، بما يمكن أن يحوّل محاولة الدخول إلى رفح إلى شرارة قد تفجر الداخل الإسرائيلي المنقسم على ذاته عنصرياً بين يمين متطرف محكوم لعقدة اضطهادهم كشرقيين تاريخياً وليبراليين متمسكين بأحقيتهم التاريخية بأن يحددوا مستقبل الكيان.
في هذا الإطار، جاء الموقف الإيجابي الذي أعلنته المقاومة الإسلامية "حماس" من مقترح التهدئة ليزيد على المشهد الإسرائيلي المأزوم تعقيدات ترتبط بالصورة التي سيظهر فيها الكيان إذا تمنع عن ملاقاة حماس في موافقتها من جهة، وليجعل الثمن الذي سيدفعه الكيان في أي صفقة مستقبلية أكثر قسوة من جهة أخرى.
فبعد أشهر من الحملات الدعائية التي استهدفت إلقاء اللوم على حركة المقاومة الإسلامية كمعرقل لأي تسوية مفترضة نتيجة اتهامها بالتسويف والمماطلة وعدم الواقعية، جاء الموقف الأخير للحركة ليؤكد جدية مساعيها لتحقيق تسوية تؤدي إلى وقف العدوان وإنجاح صفقة تبادل الأسرى، وبالتالي سيظهر الكيان على أنه لم يفاوض إلا من أجل التفاوض وكسب الوقت من دون وجود أي نية لوقف الحرب. فالإصرار على استكمال عدوانه بعد الموقف الإيجابي من المقترح المصري -القطري سيظهر أن الهدف الرئيسي من حربه لا يخرج عن إطار القتل والتدمير.
أما بالنسبة إلى إطلاق الأسرى وتحقيق الأمن في الكيان، فإن هذه الأهداف لم تكن إلا وسيلة يشرع من خلالها جريمة الإبادة البشرية التي نفذها بحق الشعب الفلسطيني طوال الفترة الماضية.
من ناحية أخرى، يجب الإشارة إلى أن الدخول إلى رفح مع حتمية تحقق السيناريوهات نفسها التي حصلت في خان يونس وقبلها في مدينة غزة وشمال القطاع لناحية عدم إمكانية تحقيق هدف إطلاق الأسرى أو القضاء على قادة المقاومة، إذ من الطبيعي أن تكون المقاومة قد استعدت سابقاً لهذا الدخول وأعدّت العدة لتحييد الأسرى عن منطقة العمليات، ورتبت تحرك قادتها وإدارتهم للعمليات بطريقة تحفظ أمنهم إلى حد كبير، سيصبح الثمن المفترض الذي سيدفعه الكيان في أي صفقة مستقبلية باهظاً قد لا يستطيع الكيان أن يتحمله، وذلك نتيجة فشل الخيارات العسكرية، وبالتالي قد يُدخله هذا الثمن المفترض في مرحلة من الانقسام الذي قد لا تنجح أي قيادة في معالجته في وقت قريب، مع ما يعنيه هذا الأمر من حتمية سقوط مدماكين كانا أساسيين في جذب المستوطنين إلى الكيان ضمن مداميك أخرى، أي التفوق والفاعلية.