النموذج الصيني

تقوم ديموقراطية الجدارة الصينية على الجدل بين الديموقراطية في الأسفل والجدارة في القمّة.

  • كتاب بيل ترجمته سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان
    كتاب بيل ترجمته سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان "نموذج الصين".

إضافة إلى أنها الأقل مديونية بين الدول الصناعية الكبرى، تحتل الصين المرتبة الأولى من حيث متوسط معدلات النمو (8-10%) مقابل 7% للهند و4% لروسيا و3% للولايات المتحدة الأميركية، وتحتل المرتبة الأولى من حيث الصناديق السيادية (2,244.4 مليار)، وتأتي بعد الاتحاد الأوروبي من حيث نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي، كما قفزت إلى المرتبة الثالثة من حيث الإنفاق العسكري بعد أميركا والاتحاد الأوروبي (جمال سويدي، آفاق العصر الأميركي).

إلى ذلك، يقدم أستاذ الفلسفة الكندي دانيال بيل نموذجاً متميّزاً في الحكم، ومختلفاً كل الاختلاف عن النموذج الليبرالي (الديموقراطية البرجوازية) الذي عرفته أوروبا وتحاول تسويقه كنموذج وحيد للحكم في العالم. ويستكمل بيل بذلك عمل أستاذ فلسفة كندي آخر هو آلان دونو، في كتابه (نظام التفاهة)، وكذلك الأستاذ الأميركي من أصل هولندي باتريك دينين، في كتابه (فشل الليبرالية). 

كتاب بيل الذي ترجمته سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان "نموذج الصين"، يمهّد لمقاربة هذا النموذج، باستعراض الأشكال المختلفة للديموقراطية، من أثينا إلى الديموقراطية الأوروبية، إذ نعرف أن الإغريق عرفوا الديموقراطية، وتحديداً أثينا، التي عرفت نظام الديموقراطية المباشرة وتصويت "المحارة" أو القرعة، بمشاركة مواطني أثينا الذي لا يشملون النساء والعمال والغرباء والعبيد. ونعرف أن الديموقراطية الأوروبية أخفقت في تحرّي المساواة الحقيقية، ما استدعى محاولات عديدة لتعديلها، مثل محاولات سومر ست موم، التصويت التعددي ومنح المتعلمين صوتاً إضافياً تجنّباً لما سمّاه طغيان الأغلبية التي تفتقد المخزون المعرفي الكافي لتشكيل جدارة ديموقراطية، بحسب الثقافة الرأسمالية. 

ولا تقتصر هذه الثقافة على شعوب الشرق، بل تتحدث عن تخلّف الوعي في قلب الإمبريالية الأميركية. وقد أظهر استطلاع رأي في الولايات المتحدة أن كثيرين يعتقدون أن فكرة ماركس "من كل وفق قدراته لكل وفق حاجاته" موجودة في الدستور الأميركي. 

ومع ظهور تحديات جديدة مثل البيئة، ظهرت دعوات إلى تخصيص مقاعد في السلطة التشريعية لممثلي المستقبل، وإنشاء برلمان للعلماء. 

ومن المحاولات الأخرى، دعوة كواسي وريدو حول الديموقراطية التوافقية وتوسيع حصة المنظمات المدنية، وتصورات ديغول التي ربطت بين الديموقراطية في فرنسا وإنشاء المدرسة الوطنية لإعداد النخبة في حقول متعددة، مثل القانون العام، الاقتصاد، المعرفة العامة، لغة أجنبية واحدة على الأقل، ومن متخرّجي هذه المدرسة رؤساء الجمهورية والحكومة: ديستان، فابيوس، هولاند، روكار، جوبيه. 

النموذج الصيني... ديموقراطية الجدارة

تقوم ديموقراطية الجدارة الصينية على الجدل بين الديموقراطية في الأسفل (البلدات والأرياف والقواعد العمالية)، والجدارة في القمّة عبر كوادر مدرّبين ومُعدّين إعداداً جيداً على كل المستويات. وقد جاءت هذه الديموقراطية بعد تجربة تاريخية بدلالة شرعيات ماكس فيبر التي مرّت فيها الصين: 

-       الشرعية التقليدية، عبر سلاسة تشينغ حتى سقوطها عام 1911، والتي أدّت إلى ما يُعرف بقرن الإهانة بالنسبة إلى الصين في القرن التاسع عشر، عندما سقطت تحت سيطرة الشركات الغربية. 

-       ثم شرعية السلطة الكاريزمية ممثّلة بـ ماو تسي تونغ، مؤسّس الصين الحديثة، ومفكّر الحزب الشيوعي وقائده، حتى وفاته.

-       ثم شرعية ما يصفه الكتاب بالسلطة العقلانية وقوامها الجدارة السياسية، وترتبط هذه الجدارة بالتطورات التي أجراها صن يات صن، بعد إطاحته السلالة الحاكمة عام 1911، وتأسيسه نظاماً يربط بين الجدارة والديموقراطية، وتطويره لأفكار كونفوشيوس بشأن التناغم والوئام الاجتماعي الداخلي مع المحيط، ودور التربية والتعليم والأخلاق، وكذلك اهتمام كونفوشيوس بالحاجات المعيشية الأساسية للشعب (الصحة، التعليم، العمل).

وبالنظر إلى الدينامية الحيوية في التجربة الصينية، شهدت هذه التجربة التفاتة مهمة للتطورات الجديدة في العالم، ومنها ما يخصّ البيئة وفق إضافات جيانغ كينغ. 

وهناك من يقارب أفكار كونفوشيوس مع نظرية أفلاطون في حكم الفلاسفة، ومع هيكلية الكنائس الكاثوليكية، كما نعرف مقاربات عديدة للكفاءة عند الفلاسفة:

الكفاءة الأخلاقية عند بياجيه، والكفاءة الأدائية عند ليوتار، وكذلك الكفاءة اللغوية عند تشومسكي.

الديموقراطية الأميركية مقارنة بديموقراطية الجدارة السياسية الصينية

بحسب الكتاب، فإن نظام التصويت الأميركي يعتمد على أكثرية في خدمة الأقلية موضوعياً، بالنظر إلى ما يسمّيه الجهل المعرفي – السياسي عند أغلبية الناخبين الأميركيين، كما يعتمد هذا النظام على استدراكات مبكرة لمؤسّسيه الأوائل، وخوفهم ممّا سمّوه صوت الغوغاء، وهو ما دفعهم إلى تحصين هذا النظام بمؤسّسات مثل مجلس الشيوخ التناوبي والمجمع الانتخابي. 

ولا يجد الكتاب ما يدعو إلى تمييز حقيقي بين الحزبين الكبيرين (ديكتاتورية الحزبين مقابل ديكتاتورية الحزب الواحد في المعسكر الاشتراكي السابق)، حيث تبدو خلافات الحزبين أقرب إلى الخلافات بين الفرق المتنافسة في كرة السلة، ويتمتع قادتهما بمستويات معيشية متقدمة جداً في قلب هذا النظام، كما يحوز 1% من الأميركيين 36% من المكاسب، وتعود 93% من مكاسب الدخل إلى 1% من دافعي الضرائب، فضلاً عن ملايين الأميركيين الذين ينالون أقل من دولارين في اليوم، بحسب الكتاب. 

عيوب الجدارة الصينية وعيوب الديموقراطية الرأسمالية الغربية

مقابل ما يحيط بديموقراطية الجدارة السياسية الصينية من إساءة استخدام للسلطة والبيروقراطية والفساد الناجم عنها، يرى الكتاب أن أبرز عيوب الديموقراطية الغربية هي تقنّع الأقلية المتنفّذة بنظام تصويتي للأغلبية، كما يدحض ما يسميه أكاذيب الديموقراطية الغربية التي تحيل الأزمات الاقتصادية والحروب إلى الأنظمة غير الديموقراطية، فيما هي الأكثر تورطاً فيها.

فالحروب العالمية الكبرى، مثل الحرب الأولى والثانية، اندلعت بين الديموقراطيات، كما كانت الحروب الأخرى بتدبير وتغذية من هذه الديموقراطيات، سعياً وراء مصالحها، ومنها تجارة الأسلحة وغيرها.