المنطقة العربية عام 2045: رؤية تصنعها المصالح ومتغيرات العصر

قد تبدو فكرة وضع رؤية تنموية مشتركة للمنطقة العربية تمتد لغاية العام 2045 عبثية أو بلا جدوى في نظر البعض، في ضوء الواقع العربي الراهن المتخم بالنزاعات العسكرية والسياسية بين دوله.

  • المنطقة العربية عام 2045: رؤية تصنعها المصالح ومتغيرات العصر
    المنطقة العربية عام 2045: رؤية تصنعها المصالح ومتغيرات العصر

قد تبدو فكرة وضع رؤية تنموية مشتركة للمنطقة العربية تمتد لغاية العام 2045 عبثية أو بلا جدوى في نظر البعض، في ضوء الواقع العربي الراهن المتخم بالنزاعات العسكرية والسياسية بين دوله، وبالتشوهات التنموية والاجتماعية السائدة في مجتمعاته، فضلاً عن القناعة التي رسختها عقود من فشل مشروعات التعاون العربي، والمتمثلة باستحالة أن يجد ما تتفق عليه الدول العربية مجتمعةً طريقه إلى التنفيذ الفعلي، بدليل عشرات القرارات الصادرة عن الجامعة العربية بمؤسساتها المختلفة، والتي لم تُنفذ، لكنّ ما يشجّع على إنجاز هذه الرؤية عاملان أساسيان:

- العامل الأول أنّ هذه الرؤية قد تشكل بادرة موضوعية وحيادية لإعادة إحياء جهود التعاون والتنسيق العربيين في مجالات حيوية تهمّ كلّ دولة عربية. يكفي أن يلتقي ممثلو الدول العربية من مختلف الاختصاصات والمهن والمسؤوليات التنفيذية لكسر حالة الجمود والقطعية المستعصية منذ بداية ما سمي بـ"الربيع العربي". 

وباستثناء بعض اللقاءات وجهود التعاون الثنائية العربية، فإنّ المنطقة العربية تفتقر حالياً إلى مبادرات تبني على المصالح المشتركة وجوانب التفاهم أكثر من تطرقها واهتمامها بنقاط الخلاف القائمة بين الدول العربية.

- العامل الآخر أنّ هذه الرؤية ستكشف للمواطن والمسؤول العربي الفرص التنموية المتاحة خلال العقدين القادمين، أو تلك التي باتت تفرض نفسها على المجتمعات بحكم ثورة المعلومات والتكنولوجيا والمتغيرات العالمية في قطاعات عدة، ولا سيما عندما يكون عرض مثل هذه الفرص محدداً وواضحاً، والأهمّ أنه يمكن قياس تنفيذها. 

وتالياً، فإنّ وضع رؤية موضوعية وقابلة للتنفيذ، والاتفاق عليها عربياً، قد يحيي آمالاً عريضة في مواجهة ثقافة الإحباط واليأس التي تجتاح مجتمعات عربية عديدة.

المحاور الستة

تنطلق الرؤية التي تعمل عليها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا"، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، من 6 أركان أساسية، بحسب ما تذكر الأمينة التنفيذية لـ"الإسكوا" الدكتورة رولا دشتي، هي: الأمن والأمان، والعدل والعدالة، والازدهار والتنمية، والابتكار والإبداع، والتنوع والانفتاح، وأخيراً التجدد الثقافي والحضاري. 

هذه الأركان أو المحاور تستند جميع النقاشات والدراسات في مقاربتها إلى التعمق والشمولية في التعاطي مع كل مصطلح، والمعايير الدولية والعلمية المعتمدة، وتحديد التحديات والفرص، والمؤشرات التي يمكن من خلالها قياس واقع كل محور وسبل تطويره.

في محور الأمن والأمان، لا يتوقف النقاش على مفهوم الأمن السياسي والأمني والعسكري، الذي غالباً ما يُحتكر هذا المصطلح به، إنما يمتدّ الحديث هنا إلى مختلف أوجه الأمن الأخرى التي تؤكد المؤشرات والبيانات الإحصائية أنها باتت أكثر خطراً على تماسك المجتمعات العربية وبنيتها، بالنظر إلى حجم المتغيرات الإقليمية والدولية التي مر بها العالم خلال السنوات الأخيرة، الطبيعية منها أو الناشئة بفعل البشر. 

إن التدهور الحاصل في الأمن الغذائي العربي حالياً لا يمكن إسقاط تداعياته السلبية على الجانب الاقتصادي فقط، فهذه التداعيات تؤثر بشكل مباشر في حالة الأمن السياسي للبلدان العربية، وفي الأمن المائي والاجتماعي والثقافي، وحتى الأمن البيئي. هذا التبادل في التأثير ينطبق بدوره على جميع أشكال الأمن المذكورة وجوانبها، وكذلك حال محور العدل والعدالة. 

إن العدل هنا أيضاً لا يرتبط بمفهومه القضائي فحسب، إنما بالمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية أيضاً، وهو يشترط، بحسب النقاشات الأولية للرؤية، "المساواة في الحقوق والواجبات"، فالعدالة غاية بحد ذاتها وقيمة أساسية من القيم العلا، وهي وسيلة لتحقيق أهداف سامية، مثل الإنصاف والمساواة والتوازن وعدم التعدي على الغير وحماية المصالح الفردية والعامة. 

 والعدالة مفهوم أخلاقي يقوم على الحق والأخلاق والعقلانية والقانون. ولذلك، من "أهم ملامح العدالة الشاملة التي ترتكز عليها رؤية العالم العربي 2045 هي العدالة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، وعدالة التمثيل، والمشاركة، والعدالة القضائية".

في الابتكار والإبداع، ليس هناك بديل من "الاستفادة من التطور التكنولوجي والتقدم العلمي، بما في ذلك الثورتان الصناعيتان الرابعة والخامسة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة. ويأتي على رأس قائمة ملامح الابتكار معضلة إصلاح التعليم المدرسي والاستثمار في رأسمال البشري، بما في ذلك الإسهامات في المجالات العلمية والاقتصادية والأدبية والفنية وغيرها"، فالواقع العربي الراهن في جميع القطاعات الحياتية يعاني محدودية متباينة بين دولة وأخرى حيال استثمار التقانة والابتكار في تحسين الإنتاجية ومخرجات العمل. 

ربما هذا هو السبب الذي يدفع الكثير من المبدعين والمبتكرين الشباب إلى الهجرة والبحث عن واقع أفضل في دول العالم الأخرى، التي تمكنت بفضل بيئة العمل لديها من توظيف قدرات هؤلاء وإمكانياتهم واستثمارها في ميادين شتى، وهو السبب أيضاً الذي يضعف مستويات إنتاجية المنشآت الاقتصادية والخدمية العربية وجودتها، ويقلل تالياً فرص منافستها وحضورها في الأسواق العالمية.

وتحاول نقاشات الرؤية التي يشارك فيها العديد من المثقفين والخبراء والمسؤولين الحاليين والسابقين مقاربة المحور الرابع لها، المتمثل بالازدهار والتنمية المستدامة، من خلال التركيز على بعدين أساسيين هما: النمو الاقتصادي الحقيقي المستدام والمتصاعد، وما يتطلّبه ذلك من توسع قاعدة الاستثمار المباشر في القطاعات الإنتاجية وتدريب الأفراد في سوق العمل على اكتساب المهارات بمختلف أنواعها وأشكالها، والبعد الآخر هو تطوير البنى التحتية وتحديثها، بحيث يصبح متاحاً تسهيل حركة انتقال الأفراد، والسلع، والخدمات، والمعرفة، ورأس المال، وغير ذلك بين جميع الدول العربية.

أما المحور الخامس الذي يحمل عنوان التنوع والحيوية والانفتاح، فيقوم جوهره على مفهوم التنوع بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية، والتنوع الذي يقدم بدائل مختلفة على مستوى الفكر والمعرفة والثقافة وطرق العمل والحياة، والتي توفر الديناميكية والمرونة التي تتطلبها حياة البشر لضمان التطور والارتقاء. والرجاء هو أن يكون مستوى انصهار مكونات الوطن في مختلف أقاليم كل بلد عربي ارتفع إلى الحد الذي يزول معه التوتر والاحتقان الداخلي. 

ليس معنى ذلك أن تتخلى المدن والأقاليم عن خصوصياتها وعوامل فرادتها، بل معناه أن تُزال الأسوار المعنوية التي تحول دون التفاعل الطبيعي والتآلف والتعاضد المحلي الوطني. وبالنسبة إلى التنوع والانفتاح على مستوى علاقات البلدان العربية بعضها ببعض، فإن إحدى أهم خصائص المنطقة التي نطمح إليها هي أنها منطقة تنفتح فيها بلدانها على بعضها بعضاً انفتاحاً واسع النطاق ولا يكون فيها مجال للانغلاق.

ولا يتجاهل المشاركون في وضع الإطار العام للرؤية حتمية التجدد الثقافي والحضاري كمحور رئيس تنهل منه جميع المحاور السابقة. وفي هذا المسعى، تقترح الرؤية العمل على "صياغة مقاربة فكرية للتجدد الثقافي، بحيث تتم إعادة صياغة المفهوم بصورة تبعث على تقدم المجتمعات العربية بتراثها الثقافي العربي الثري المتعدد المشارب، وتمتلك الشجاعة والثقة في المستقبل، ولديها القدرة على المبادرة في البدء برحلة التجدد الثقافي والحضاري العربي، رغم التفاوت الكبير في مسارات التطور العلمي والمادي مقارنة مع الغرب والشرق الأقصى".

أمثلة حية

السؤال هنا: ما الذي يجعل هذه الرؤية قابلة للإنجاز؟

قبل بضعة أيام، كان فريق من الباحثين السوريين العاكفين على دراسة التغيرات المناخية، وتحديداً ما يرتبط منها بظاهرة العواصف الغبارية، يعلن أن هذه العواصف أخذت منذ بداية ربيع هذا العام تشهد تحولات جذرية، لا تهدد بتأثيراتها تجمعات سكانية في سوريا بلغ عددها 288 تجمعاً في العاصفة الأخيرة فحسب، إنما وصلت تأثيراتها السلبية إلى دول عربية وإقليمية أيضاً، بل إنَّ الحدود السورية الأردنية تحولت إلى منبع لهذه العواصف لأسباب بيئية، وهو ما يفرض، في رأي المسؤولين الحكوميين السوريين، تعاوناً إقليمياً لمحاصرة هذه الظاهرة.

ما تفرضه ظاهرة العواصف الغبارية من حتمية التنسيق العربي لدرء أخطارها وخسائرها المقدرة بأكثر من 13 مليار دولار، يحضر أيضاً في مجالات أخرى عديدة، كالتبادل التجاري، والتعليم، والصحة، وسوق العمل، والنقل. 

وفي هذا المجال مثلاً، لا يمكن للدول العربية أن تستثمر جغرافيتها في تنشيط خطوط الترانزيت وطرق التجارة واستثمارها ما لم تعمل مع بعضها البعض على تحديث شبكات النقل وتسهيل عبور الشاحنات والطائرات والسفن، وإلا فإنها ستبقى كجزر معزولة غير قادرة على استثمار إمكانياتها وقدراتها ومواردها.

وربما تكون محاولات تحويل التجارة الشرق متوسطية من المرافئ السورية واللبنانية إلى المرافئ التركية والإسرائيلية خير مثال على أهمية المحافظة على المكاسب الاقتصادية للجغرافيا العربية وتطوير عمليات استثمارها وتحصينها.

لذلك، إنَّ ما يجعل هذه الرؤية قابلة للإنجاز هي الفرص الموجودة فعلاً، وليست تلك التي يمكن إيجادها وخلقها في عالم متغير فحسب، ثم إن التجارب السابقة، كمنطقة التجارة الحرة العربية، وتنقل الأفراد على البطاقة الشخصية بين عدة دول عربية مجاورة، والاستثمارات العربية البينية التي كانت قيمتها حتى العام 2011 تزداد سنوياً، وغير ذلك من المشروعات التي خرجت إلى حيز التنفيذ، هي بمنزلة دليل استرشاد يمكن الاستفادة من معطياته وحقائقه فيما يراد فعله وتنفيذه مستقبلاً. 

ومع ذلك، فإنَّ الطريق لن يكون مفروشاً بالورود، فثمة تحديات كثيرة، داخلية وخارجية، ستكون في انتظار البرامج التنفيذية للرؤية، بدءاً من شبكات المصالح والفساد المنتشرة في جميع الدول العربية، وبنسب مختلفة بين دولة وأخرى، مروراً بالحسابات السياسية للحكومات ودرجة انفتاحها وتقبّل مؤسساتها للطروحات الإصلاحية، وصولاً إلى التدخلات الخارجية على اختلاف أشكالها ودرجاتها، لكن هذا الحلم يبقى جميلاً ومشروعاً.