الملف النفطي والمأزق الكردي وتفاهمات الأمر الواقع
ما عمّق الأزمة بدرجة أكبر، وزاد من حدة المأزق الكردي، إصدار المحكمة الاتحادية العليا منتصف شهر شباط/فبراير 2022 حكماً يقضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز الخاص.
ربما يكون قرار المحكمة التجارية الدولية في العاصمة الفرنسية باريس القاضي بعدم شرعية تصدير النفط من قبل حكومة إقليم كردستان في شمال العراق من دون موافقة وإشراف الحكومة الاتحادية في بغداد، أو بتعبير أدقّ من دون موافقة وإشراف شركة تسويق النفط الوطنية العراقية (سومو)، الضربة الأقوى والأشد للكرد، لأنها لم تأتِ هذه المرة من جهة محلية داخلية قد تسعى إلى إضعافهم أو ابتزازهم لأهداف ودوافع سياسية معيّنة، بل جاءت من مؤسسة دولية مختصة من الصعب بمكان الطعن-أو حتى التشكيك-بموضوعيّتها وحياديتها.
وعلى مدى بضعة أعوام، شكّل ملف إنتاج وتصدير النفط من قبل الحكومة المحلية في إقليم كردستان العراق، أحد أبرز النقاط الخلافية الشائكة والمعقّدة مع الحكومة الاتحادية، رغم أنّ كل الموازنات السنوية المالية حدّدت آليات وكميات التصدير وكيفية استحصال عائداته وأبواب صرفها وإنفاقها.
وبينما كانت حكومة الإقليم تتهم الحكومة الاتحادية بحرمان الكرد من حقوقهم في الدولة العراقية، وتحمّلها مسؤولية انقطاع وتوقّف صرف رواتب الموظفين والمتقاعدين والفئات الأخرى لشهور عديدة، وتأزم الأوضاع الحياتية في محافظات الإقليم بشكل عام، كانت الحكومة الاتحادية تلقي باللوم على حكومة الإقليم في كل ذلك، من جرّاء عدم التزامها وتقيّدها بما يتمّ الاتفاق عليه بخصوص ضوابط وكميات تصدير النفط وتحويل عائداته المالية إلى الخزينة العامة، حتى يصار إلى إعطاء الإقليم حصته المقرّرة في الموازنة- أو الموازنات السنوية.
ومنذ عام 2014، تصاعدت مديات الأزمة بين بغداد وأربيل، إذ أنه في أواخر عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، قرّرت الحكومة الاتحادية حجب حصة إقليم كردستان من الموازنة الاتحادية بسبب قيام الأخير بتصدير النفط والاستفادة من عائداته من دون الرجوع للمركز، وقد أدى ذلك إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والحياتية لفئات وشرائح واسعة من مواطني الإقليم، وبالتالي اتساع نطاق الخلافات والتقاطعات داخل البيت الكردي، ناهيك عن تزايد حدة السخط والاستياء الشعبي من جرّاء السياسات الخاطئة لحكومة الإقليم واستشراء الفساد في شتى المفاصل والأبعاد.
ففي شهر أيار/مايو من العام المذكور، قامت وزارة النفط في الحكومة الاتحادية برفع دعوى قضائية ضد وزارة الثروات الطبيعية في حكومة الإقليم لتصديرها النفط من دون موافقة حكومة المركز، وهدّدت الشركات النفطية التي تشتري النفط المصدّر بطريقة غير رسمية بالملاحقة القانونية. فضلاً عن ذلك فإنّ المتحدث الرسمي في وزارة النفط الاتحادية عاصم جهاد أكد في حينه أنّ الوزارة "بدأت أيضاً في اتخاذ إجراءاتها القانونية ضد تركيا وشركة بوتاس الحكومية لخرقهما الاتفاقية الموقّعة بين البلدين عام 2010".
لقد قدّمت وزارة النفط طلب تحكيم ضد تركيا وشركة بوتاس المتخصصة بمدّ خطوط نقل النفط إلى غرفة التجارة الدولية في باريس، قائلة في بيان لها، "إنّ سبب طلب التحكيم هو قيام تركيا بنقل وتخزين النفط الخام من إقليم كردستان، من دون إذن من العراق"، علماً أن وزير الطاقة التركي السابق تانر يلدز أعلن في ذلك الوقت قيام حكومة إقليم كردستان العراق بتصدير أول شحنة من النفط الخام عبر ميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط.
بينما أعلنت حكومة الإقليم أنها ستواصل ممارسة حقّها الدستوري في بيع النفط وستودع وارداته في بنك تركي، وأنها ستخصص جزءاً من تلك الواردات للإقليم. فضلاً عن ذلك، فإنّ ما استندت إليه بغداد في دعواها ضد أنقرة، هو مخالفة الأخيرة لأحكام اتفاقية خط الأنابيب العراقية التركية المبرمة بين الطرفين عام 1973، والتي تنص على "وجوب امتثال الحكومة التركية لتعليمات الجانب العراقي فيما يتعلق بحركة النفط الخام المُصدّر من العراق إلى جميع مراكز التخزين والتصريف والمحطات النهائية".
وفي واقع الأمر، خلط ملف النفط كل الأوراق، وفاقم الأزمات، ووسّع الهوّة بين بغداد وأربيل. والملفت أنّ الحوارات والمباحثات بين الطرفين بشأن مختلف القضايا والملفات، وفي مقدّمتها ملف النفط، بدلاً من أن تسهم في تقريب وجهات النظر، كانت غالباً ما تؤدي إلى تعميق المشاكل بدرجة أكبر، وربما أشارت بعض أحداث النصف الثاني من عام 2017 إلى أنّ الطريق ما زال طويلاً لتصفير الخلافات.
فبينما أقدمت حكومة الإقليم على إجراء استفتاء شعبي عام لانفصال الإقليم في الخامس والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر من العام المذكور، وجّه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بعد حوالي أسبوعين برفع العلم العراقي على كل مباني محافظة كركوك المتنازع عليها بعد إخراج القوى الكردية منها وإغلاق كلّ مقارها الحزبية.
وفي الوقت الذي وصف رئيس إقليم كردستان السابق وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني في حينه الاستفتاء بـ "الانتصار التأريخي الكبير"، ودعا إلى استمرار الحوار مع بغداد لحل المشاكل العالقة، ردّت الأخيرة بقوة حينما حدّد العبادي مهلة 72 ساعة لتسليم المطارات في محافظات الإقليم إلى السلطات الاتحادية، وإلا يُصار إلى منع الرحلات الجوية منها وإليها. وبالفعل نفّذت الحكومة الاتحادية تهديداتها، لتصل الأزمة إلى ذروتها بإرغام الكرد على مغادرة كركوك.
وهكذا كان إيقاع الخلافات ومديات الأزمات يتصاعد ويتسع بين المركز والإقليم، وحتى المرونة التي حاول بعض رؤساء الحكومات السابقة، كعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي، المتعاطفين مع الكرد إبداءها، لم تفلح في حل المشاكل والأزمات، ولا حتى حلحلتها. والدليل على ذلك، أنّ الإقليم استمرّ بتصدير نفطه بعيداً عن الحكومة الاتحادية، بل وأكثر من ذلك وسّع عمليات التصدير، عبر التعاقد مع المزيد من الشركات النفطية الأجنبية للدخول والاستثمار في قطاع النفط بالإقليم.
وقد قابله تصعيد سياسي وشعبي وبرلماني وقانوني من بغداد، أعطى انطباعاً وتصوّراً مفاده، غياب أي أفق لمعالجة الخلافات مع الكرد. وما زاد من ذلك الانطباع والتصوّر، تعقيدات المشهد السياسي الكردي الحافل بالتقاطعات والخلافات والاختلافات السياسية الحادة، التي ربما كان جزء منها نتيجة للأزمات الاقتصادية الخانقة، وجزء آخر منها سبباً لتلك الأزمات.
وما عمّق الأزمة بدرجة أكبر، وزاد من حدة المأزق الكردي، إصدار المحكمة الاتحادية العليا منتصف شهر شباط/فبراير 2022 حكماً يقضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز الخاص في إقليم كردستان والصادر في عام 2007.
ولمن يتمعّن في هذا القرار والقرار الدولي الأخير يجد انسجاماً كبيراً بين الاثنين، حيث أنّ قرار المحكمة الاتحادية العليا ألزم حكومة إقليم كردستان، "بتسليم كامل إنتاج النفط من الحقول النفطية في الإقليم والمناطق الأخرى، التي كانت وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان تستخرج النفط منها، وتسليمها إلى الحكومة الاتحادية المتمثّلة بوزارة النفط العراقية، وتمكينها من استخدام صلاحياتها الدستورية بخصوص استكشاف النفط واستخراجه وتصديره".
وفي مطلع شهر شباط/فبراير من هذا العام، كانت المحكمة نفسها قد أصدرت حكماً يقضي بعدم دستورية تمديد عمل برلمان الإقليم. بيد أن الضربة الأقوى، تمثّلت بحكم المحكمة بإلغاء كل القرارات المتعلقة بتحويل الأموال إلى الإقليم، في إشارة إلى مبلغ الـ(400) مليار دينار التي كانت الحكومة تحوّله شهرياً إلى حكومة الإقليم تحت الحساب، لمساعدتها في دفع رواتب موظفيها.
كل تلك الوقائع والمعطيات وغيرها، وآخرها قرار المحكمة التجارية الدولية في باريس، الذي كان في واقع الأمر موجّهاً للكرد أكثر من كونه موجّهاً ضد تركيا، أشارت بوضوح إلى أن الخط البياني لمشاكل وأزمات المركز والإقليم، سار طيلة العقدين الماضيين بمنحى تصاعدي رغم مشاركة الكرد في السلطة وإدارة شؤون البلاد، ورغم تشابك المصالح، وفسحة الحرية والديمقراطية التي توفّرت بعد الإطاحة بنظام صدام ربيع عام 2003، ورغم الكثير من التحديات المشتركة.
وأشارت تلك الوقائع والمعطيات أيضاً، إلى أنّ الكرد لا يمكن أن ينسلخوا من الكيان الوطني العراقي، لأسباب وظروف موضوعية، وعوامل داخلية وخارجية، ومعادلات إقليمية ودولية مركّبة بطريقة لا تنسجم مع طموحاتهم وتطلّعاتهم. فالاستفتاء على الانفصال قبل أكثر من خمسة أعوام، كشف وأثبت جانباً كبيراً من تلك الأسباب والظروف والعوامل والمعادلات، وبيّن أن أصحاب القرار السياسي الكردي لم يصلوا إلى المرحلة التي يمكنهم فيها أن يفرضوا خياراتهم على الآخرين، سواء على شركائهم في الوطن، أو جيرانهم، أو أصدقائهم وحلفائهم الدوليّين، وهم ما زالوا يتحرّكون ضمن دائرة العرقلة والتعويق، أو القبول والإذعان.
وهذا على الصعيد الآنيّ-المرحليّ يرتّب عليهم الكثير من الاستحقاقات الداخلية، التي ظهرت واستفحلت بصورة أزمات اقتصادية، وضغوطات اجتماعية، والمزيد من الاحتقانات السياسية. ويتجلّى ذلك بقدر أكبر، حينما تكون استجابة الأطراف الدولية، حكومات كانت أم شركات، للقرارات والأحكام الدولية، كما هو الحال مع القرار الأخير للمحكمة التجارية الدولية، الذي تعاطت معه تركيا بإيجابية وهدوء، والتي أظهرت بعض الوثائق إيقافها ضخ الخام العراقي عبر خط الأنابيب المؤدي إلى ميناء جيهان الواقع على البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن تأكيدها بأنها ستحترم الحكم الصادر في قضية التحكيم.
كذلك أذعنت للقرار الدولي سريعاً كبريات الشركات النفطية الأجنبية العاملة في الإقليم. إذ أقدمت شركتا "DNO" النفطية النرويجية، و" Gulf Keystone Petroleum " البريطانية، اللتان تستثمران في عدد من الحقول النفطية ضمن حدود الإقليم على إيقاف تصدير النفط عبر تركيا اعتباراً من الرابع والعشرين من شهر آذار/مارس الماضي، وتخزينه مؤقتاً إلى حين حسم الأمور بصورة قانونية، التزاماً بقرار المحكمة التجارية الدولية بهذا الشأن.
وذكرت مصادر خاصة، "أنّ حكومة إقليم كردستان قد أصدرت تعليمات للشركة النرويجية DNO بوقف مؤقت للصادرات عبر خط الأنابيب العراقي التركي، فيما بيّنت شركة Gulf Keystone Petroleum البريطانية، أنّ لديها منشآت ذات سعة تخزين تسمح بمواصلة الإنتاج بمعدل مقلّص خلال الأيام المقبلة وبعد ذلك ستعلّق الشركة الإنتاج. مشيرة الى أنه "لم يتضح بعد متى ستستأنف عمليات التصدير، في الوقت الذي تتوقّع الشركة البريطانية أن يكون تعليق الصادرات مؤقتاً، بناء على تصريحات صدرت من مسؤولين في بغداد وأربيل".
ووفق بيانات خاصة بشركة تسويق النفط الوطنية العراقية(سومو)، بلغ معدل صادرات الإقليم النفطية عبر ميناء جيهان التركي 444 ألف برميل يومياً في شباط/فبراير الماضي، بزيادة قدرها 18% مقارنة بمعدل صادرات شهر كانون الثاني/يناير الماضي. فضلاً عن ذلك، فإن زارة النفط في الحكومة الاتحادية أشارت في بيان لها إلى أنها "ستناقش عمليات التصدير من ميناء جيهان مع السلطات المحلية في إقليم كردستان ومع الحكومة التركية لضمان استمرار تدفّقات النفط الخام عبر الميناء وتمكين (سومو) من الوفاء بالتزاماتها مع العملاء الدوليّين".
ولا شكّ أنه ليس من مصلحة الحكومة العراقية توقّف الصادرات النفطية عبر تركيا طويلاً، لأنّ ذلك من شأنه أن يخلق ارتباكات واضطرابات كثيرة، ولا سيما أنّ العراق يعتمد بنسبة عالية جداً على النفط في تأمين موارده المالية، وأنّ أي توقّف أو انخفاض حاد في أسعاره ينعكس بصورة مباشرة وسريعة على مجمل الوضع العام للبلاد، بيد أنها-أي الحكومة العراقية-تجد في قرار المحكمة التجارية الدولية فرصة جيدة للغاية من أجل وضع مسارات وضوابط جديدة تلزم إقليم كردستان بالعمل والتقيّد بها، وهو ما يعزّز قوتها وسيطرتها بما ينسجم مع روح الدستور وفلسفة النظام الفيدرالي الذي يحصر قضايا الأمن القومي والاقتصاد بمفهومه العام والسياسة الخارجية بالحكومة الاتحادية.
في مقابل ذلك، فإنّ إقليم كردستان، الذي سيتضرّر كثيراً من تداعيات القرار الدولي، ينبغي أن تتصرّف السلطات الحاكمة فيه بواقعية أكبر معه، لكي تجنّب أبناء الإقليم المزيد من المشاكل والأزمات. فلم يعد من المنطق أن تكون ردود أفعالها بخصوص هذا القرار، كما كانت انفعالية ورافضة لقرار المحكمة الاتحادية العليا المتعلّق بعدم دستورية قانون النفط والغاز الكردي، ولا بدّ لها من التمييز والفصل بين الطموحات والتطلّعات والأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى من جهة، وبين الواقعيات والضرورات والاستحقاقات الآنية الراهنة، وإن كانت الأولى مشروعة ومبرّرة، والثانية صعبة ومؤلمة وقاهرة.