المعارضة السورية والحل السياسي.. أزمة مستمرة (2-3)
أوّل شروط بدء الحوار ونجاحه في سوريا هو إيقاف الرهان على الولايات المتحدة والقوى الغربية لإحداث تغيير في بنية النظام السياسي.
مع انطلاق المبادرات الإقليمية والدولية، للقوى الآسيوية الناهضة، وبعد الاتفاق السعودي الإيراني، برعاية وإخراج صيني، تسارعت الدعوات والشروط لإجراء حل سياسي في سوريا، سعياً لإحداث الأمن والاستقرار في منطقة غرب آسيا، الذي لا يمكن أن يتحقّق إلا من بوابة الحل السياسي فيها، وإخراج "إسرائيل" والولايات المتحدة، من دائرة قرار المشاركة الفعّالة لهذا التوافق، وهما الدولتان الأساسيتان اللتان لا تريدان ذلك، مما يطرح سؤالاً أساسياً، بمدى إمكانية حصول ذلك؟
تتطلّب الإجابة على هذا السؤال الغور بعيداً في جذور الحياة السياسية في سوريا، وهي بطبيعة الحال تنطبق على بلدان المشرق العربي، بحكم التشابه الكبير فيما بينها، وتتظاهر فيها بشكل متشابه، ومفهوم الحياة السياسية بالأساس هو جديد، ولم يظهر في الأدبيات السياسية، إلا في نهايات القرن التاسع عشر، بعد تمدد النفوذ الغربي، الذي أتاح الفرصة لنخب محدودة، للاطلاع على التجارب السياسية لكل من فرنسا وبريطانيا.
تحكّمت ثلاثة عوامل أساسية في نشوء الحياة السياسية، فالعامل الأول يعود لطبيعة نظام الغلبة، الذي لم تعرف المنطقة سواه، على مدى أكثر من خمسة آلاف عام، من تعاقب الإمبراطوريات والحضارات، وهذا ترك آثاراً عميقة في بنية العقل العربي بشكل عام والمشرقي بشكل خاص، والذي ترك آثاره على مجمل القوى السياسية التي تشكّلت، والتي عملت على استنساخ التجربة السياسية الماضوية، بآليات وأشكال حديثة، فلم تستطع أن تتخلّص من الجذور السابقة، إن كان ذلك للقوى التي استطاعت الوصول للسلطة، أم القوى التي تسعى لإزاحتها، والحلول مكانها.
العامل الثاني الذي ألقى بظلاله على الحياة السياسية المستجدة، هو إدراك العقل الباطني الجمعي مدى هشاشة الجغرافيا السورية، مما دفع بالقوى السياسية التي تشكّلت، للبحث عن مشاريع من خارج سوريا، انطلاقاً من دوافع المصالح المتناقضة لهذه القوى. وهذه الظاهرة ليست حديثة، بل بدأت مع بدء الحياة السياسية بعد الاستقلال، وظهور الصراع الإقليمي والدولي على سوريا، مما دفع بحزب الشعب ذي الثقل الدمشقي بالانحياز للسعودية ومصر، ومن ورائهما الولايات المتحدة، التي كانت تثبِّت وجودها في المنطقة، بينما انحاز الحزب الوطني ذو الثقل الحلبي، باتجاه العراق والأردن، ضمن المشروع الهاشمي، الذي تقف خلفه بريطانيا، الساعية لعدم الخروج من المنطقة.
العامل الثالث الذي أدّى دوراً مهماً في الحياة السياسية المستجدة، هو التنوّع الكبير للهويات ما دون وطنية، والتي لم تستطع الدولة السورية الحديثة بعد الاستقلال، تقليص حضورها بأشكالها الإثنية، والدينية، والمذهبية، والعشائرية، والمدنيّة والريفية، ضمن القوى السياسية المتنوّعة، مما انعكس سلباً على إيجاد حياة سياسية حقيقية، من خلال حياة برلمانية، تكون فيها الاصطفافات ذات طابع سياسي، مبنية على رؤى ومشاريع واضحة الأهداف.
أدت هذه العوامل الثلاثة دوراً أساسياً، في صياغة المشهد السياسي بعد الاستقلال، وبشكل مستمر حتى الآن، مما أدخل سوريا في أزمات دموية قاسية في كل المراحل، وإن تفاوتت بين كل مرحلة والتي تليها بشكل متصاعد، إلى أن جاءت الأزمة الكارثية الحالية، وما ترافق ذلك من تدمير واسع النطاق على مستوى الوطن السوري، في ظاهرة تعبّر عن حجم التناقضات في خيارات السوريين، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
لم تنجُ أغلب قوى المعارضة السورية من هذه العوامل الثلاثة، رغم التطوّر السريع، الذي حدث على مستوى العالم، وخاصةً بعد أن انتشرت التقنيات الحديثة، وما أفرزته من ثقافات مرتبطة بها، فصبغت نفسها بالعوامل الثلاثة، فأفرزت ظواهر مشابهة لما تريد تغييره، بل تجاوزت ذلك بمديات مختلفة، وأهَّبت البيئة المناسبة، للتدخل الإقليمي والدولي الواسع النطاق، واستدعته إلى الداخل السوري.
فكان هناك من طرح نظرية الصفر الاستعماري، بعد احتلال الولايات المتحدة والدول الغربية للعراق، لتأكيد إيجابية الاحتلال، الذي يستطيع إعادة سوريا من تحت الصفر إلى خط السواء الصفري.
وهي بهذا الموقف استدعت من حطّم المنطقة، وشكّل كيانات غير قابلة للحياة، من دون مراعاة للنسيج الاجتماعي المتداخل لشعوب المنطقة، غير القابل للتقسيم وفقاً لحدود فاصلة فيما بينها، وهي التي لم تعرف حدوداً فيما بينها من قبل، ولم يتم الأخذ برأيها بما حِيك لها، وهي القوى الغربية التي صنعت كياناً وظيفياً (إسرائيل)، في أهم جغرافيا سياسية فاصلة بين آسيا وأفريقيا (فلسطين)، وطردت شعباً من أرضه، وإن تمّ ذلك عبر قوى إقليمية محيطة بسوريا، فإن الفاعل الحقيقي لكل ما حدث من حيث الدوافع والأسباب والنتائج، هو القوى الغربية التي تقودها الولايات المتحدة.
والخطيئة الكبرى أنّ أغلب هذه القوى، لم تنظر إلى الصراع في سوريا، باعتباره صراعاً في ساحة مفتاحية لنظام دولي جديد، للخروج من النظام الدولي الحالي المهيمن وحيد القطب، فأعلنت أغلبها اصطفافها الجيوسياسي مع المتسبّب الأول بكوارث المنطقة، مما أفقدها مصداقية العمل، وكشف فعالية العوامل الثلاثة سابقة الذكر، في صياغة رؤيتها السياسية، ولم تدرك بأن رهاناتها لم تكن في محلها أخلاقياً وسياسياً.
إضافة إلى غياب قضية فلسطين عن أدبياتها السياسية، قلقاً من فقدان الدعم الغربي، كي تكون بديلاً عن النظام السياسي القائم في سوريا، والأمر لم يكن حديث العهد، فقد ظهر هذا الأمر في إعلان دمشق عام 2005، مما دعا عبد الحليم خدّام لإحراجهم بغياب فلسطين عن البيان. وتكرّر ذلك في حرب تموز، التي امتعض فيها الكثير من المعارضين من نتائج الهزيمة "الإسرائيلية"، التي اعتبروها ستمدّ من عمر النظام السياسي، وهو موقف ينبع من حضور الكراهية بشكل مقدّم على أي مصلحة وطنية.
أصبح مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي والاجتماعي رهناً بتحقيق الأمن والاستقرار، الكفيلين بإنهاء الانقسام المجتمعي السوري العمودي، المترافق بحركة تغيير ديمغرافية قسرية، على كامل الجغرافيا السورية، والتي تجاوز فيها عدد النازحين في الداخل، واللاجئين في الخارج، أكثر من ثلاثة عشر مليون نسمة. وهي لا يمكن أن تتحقّق إلا من خلال حلّ سياسي، لا تتوفّر عوامله الداخلية حتى الآن، رغم تغيّر البيئة الإقليمية والدولية الدافعة نحوه والتي يمكن لها أن تساهم في إيجاد الأرضية المناسبة للحوار.
وأوّل شروط بدء هذا الحوار ونجاحه، هو الاتفاق على التموضع الجيوسياسي لسوريا، ضمن البيئة التاريخية والجغرافية الطبيعية، بتبنّي القضية الفلسطينية بشكل واضح في الأدبيات السياسية، وإيقاف الرهان على الولايات المتحدة والقوى الغربية لإحداث تغيير في بنية النظام السياسي الحالي.
والأمر الثاني هو بتحديد أولويات الداخل، حيث تأتي الأولويات الاقتصادية ضمن أول سُلم الاحتياجات للسوريين، مع الاتفاق على أن ثنائية السلطة والمعارضة، ضرورة قصوى لاستمرار الدولة السورية، ولكن ضمن بيئة جديدة، تتيح بناء الحياة السياسية بشكل تراكمي، ضمن إطار زمني محدد، تبعاً لما يتم العمل عليه بشكل جدي.
ويبقى السؤال بغياب السياسة والسياسيين، هل يمكن أن يحصل التغيير الإيجابي العميق والهادئ، بعد أكثر من اثني عشر عاماً من الحرب المركّبة؟