اللجوء السوري وتداعيات السياسات الغربية: لا أفق سوى البحر
معركة الغرب في خنق الشعب السوري في الداخل ستدفع بأعداد جديدة من السوريين إلى البحث عن مصادر أرزاقهم خارج الحدود، وسيكون لبنان أول وأهم معبر لهم كالعادة.
تتفاعل أزمة اللجوء السوري في دول الجوار بشكل أكبر يوماً بعد يوم، حتى باتت مادة إعلامية واجتماعية تُتداوَل بشكل يومي في بعضها، خصوصاً بعد تفاقم الأزمات الاقتصادية في المنطقة ونشوء أزمات جديدة يرتبط بعضها بشكل مباشر بوجود هؤلاء اللاجئين وأعدادهم الكبيرة، ومنها الأزمة الأمنية التي بدأت تبرز وتتفاقم مؤخراً في بلدٍ مثل لبنان مثلاً، وذلك بعد حدوث عدد من الجرائم التي اتهِم أو ثبت ضلوع بعض اللاجئين بارتكابها، والتي أحدثت، إلى جانب الضائقة الاقتصادية الخانقة، حالة غضب واضحة حيال اللاجئ السوري من قبل شريحة من الشعب اللبناني.
تتوزع النسب الأكبر من اللاجئين السوريين في دول جوار سوريا بين 4 بلدان، هي لبنان وتركيا والأردن ومصر. وتختلف حالة التعاطي الرسمية والشعبية معهم بين بلدٍ وآخر، وتخضع بدورها لعدة عوامل، أبرزها نسبة اللاجئين وأعدادهم في هذا البلد أو ذاك، والقرارات الحكومية التي تنظم إقامتهم وأعمالهم، ثم المساعدات الدولية وطريقة إيصالها وتوزيعها.
في تركيا مثلاً، التي كانت أول وجهة نزوح بأعداد كبيرة في بداية الأزمة السورية، والتي ثبت بحسب تقارير إعلامية واستخبارية نُشرت تباعاً بأنها أقامت، بتمويل من بعض الدول العربية، مخيمات كبيرة عند الحدود قبل نشوب الحرب، وساهمت في تشجيع السكان السوريين في الشمال خصوصاً على النزوح، تُشكل نسبة اللاجئين السوريين أقل من 4% من عدد سكان تركيا البالغ 85 مليون نسمة.
ويعيش في تركيا ما يقارب 4 ملايين و500 ألف لاجئ سوري، منحت حكومة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم أكثر من 200 ألف منهم الجنسية التركية في السنوات الأخيرة، فيما جرى تنظيم إقامة وعمل الغالبية العظمى من اللاجئين الباقين وإعادة أكثر من 500 ألف من المخالفين لنظام اللجوء أو الإقامة بينهم إلى الشمال السوري في السنتين الماضيتين من دون أي تنسيقٍ مع الدولة السورية.
وعمدت حكومة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى فتح السواحل البحرية التركية وتسهيل هروب وتهريب عشرات الآلاف منهم نحو أوروبا، في عمليات ابتزازٍ واضحة خلال مراحل تشنج العلاقات التركية مع دول الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت التي تحتل تركيا بعض أجزاء الشمال السوري، وترعى التنظيمات المسلحة المعادية للدولة السورية، يؤكد المسؤولون الأتراك بشكل دائم مؤخراً ضرورة إعادة التواصل مع الدولة السورية لأسباب عديدة، منها مسألة إعادة اللاجئين، لأن حكومة "العدالة والتنمية" واجهت ضغوطاً شعبية كبيرة خلال السنوات السابقة بسبب هذا الملف وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية.
أما في الأردن، فتبدو الأمور منظمة إلى حد كبير أيضاً، إذ عمدت الحكومة الأردنية إلى إقامة عدد من المخيمات الخاصة باللاجئين، وأحكمت حراستها ومراقبتها، بحيث يعتمد سكانها الذين يعيشون في ظروف إقامة قاسية على المساعدات الأممية فقط، فيما منحت تراخيص عمل للعديد من المستثمرين السوريين الذين أنشأوا الشركات والمصانع وافتتحوا المحال تجارية.
ومع ذلك، تشتكي الحكومة الأردنية بشكل دوري من الضغط الاقتصادي الذي يُسببه وجود هؤلاء اللاجئين، وتطالب بإيجاد سبل لإعادتهم إلى بلادهم.
ويختلف الأمر في مصر إلى حد ما، إذ شكلت مصر وجهة عربية أساسية لـ"اللاجئ الاقتصادي" السوري، الذي وجد في السوق المصرية مجالاً واسعاً ومفتوحاً للعمل والاستثمار في مشاريع صغيرة وكبيرة. وقد شجعت الدولة المصرية الوافدين السوريين على هذا النوع من الاستثمار، وأعفت بعض المستثمرين الكبار من الضرائب لعدة سنوات.
ومع ذلك، بدأت الأصوات تتعالى في الآونة الأخيرة داخل الشارع المصري والشكوى من مزاحمة اللاجئين للمصريين في أعمالهم، خصوصاً بعد أزمة السودان الأخيرة التي دفعت بمئات الآلاف من المواطنين السودانيين إلى الهرب من جحيم المعارك باتجاه مصر.
ويبقى الوضع الأكثر كارثية في مسألة اللجوء السوري في الإقليم في لبنان، ذلك أنه يستقبل أكبر عدد من اللاجئين في العالم قياساً بعدد سكانه؛ ففي حين تصرح المفوضية الدولية العليا للاجئين عن 880 ألف لاجئ سوري مُسجل في لبنان، تشير تقارير الحكومية اللبنانية إلى وجود ما يقارب مليوناً ونصف مليون لاجئ في الداخل اللبناني، وما يقارب مليون نازح ووافد وعامل ومقيم بطرق شرعية وغير شرعية، وهو عدد كبير جداً بالنسبة إلى بلد ضيق الجغرافيا وقليل الموارد مثل لبنان.
وقد شكلت هذه المسألة ضغطاً اقتصادياً واجتماعياً هائلاً في لبنان خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد في العام 2019.
يبدو السجال اللبناني الدائر حول اللجوء السوري وتداعياته أشبه بفوضى عارمة. ولطالما كانت بعض أوجه تلك الفوضى مقصودة دائماً، إذ دأبت بعض القوى اللبنانية منذ بداية الأزمة السورية على الاستجابة للمخططات الغربية حيال سوريا، فساعدت في تشجيع قدوم اللاجئين واستقبالهم وحماية هذا الملف من أي أصوات أو قرارات داخلية تسعى إلى مواجهته قانونياً أو وفق المصلحة العليا للبلاد.
وقد سعى الرئيس اللبناني السابق ميشال عون بقوة لتحريك هذا الملف خلال عهده الرئاسي، من خلال تحذيراته المتكررة ودعواته للتنسيق الفوري مع الحكومة السورية، لكنه قوبل بحملة ضارية من تلك القوى ومن "المجتمع الدولي"، وهو ما واجهه حزب الله أيضاً، حين أعلنت قيادته، على لسان الأمين العام السيد حسن نصر الله، مراراً وتكراراً، استعدادها للمساعدة في إعادة اللاجئين إلى المناطق التي استعادتها الدولة السورية، وعن انفتاح دمشق واستعدادها لبذل كل الجهود اللازمة في هذا الصدد، لكن القرار الأميركي والأوروبي كان واضحاً بخصوص منع نجاح أي جهود على هذا المستوى ومواصلة الضغط السياسي على بيروت لمنع التواصل مع دمشق.
لكن تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان وتزايد الحوادث الأمنية التي يقف خلفها أو يُتهم لاجئون سوريون بالتورط فيها مؤخراً، وقدوم رئيسة المفوضية العليا للاجئين إلى بيروت، والإعلان عن تقديم مليار دولار لمساعدة اللاجئين، وتحسين ظروف عيشهم في لبنان، أعاد هذا الموضوع إلى التداول بقوة في الداخل اللبناني، إلى درجة اتفاق معظم القوى اللبنانية على ضرورة إيجاد حلول سريعة لهذا الملف.
وقد تداعى مجلس النواب اللبناني إلى الاجتماع قبل أيام، ليخرج بعدة توصيات، أهمها تشكيل لجنة وزارية للتواصل مع الجهات الإقليمية والدولية لمحاولة إيجاد حلول سريعة وناجعة، ووضع برنامج زمني محدد وواضح لعودة اللاجئين إلى بلادهم، والطلب من الجهات الدولية زيادة المساعدات للبنان، كي يستطيع مواجهة أعباء هذا الملف.
وفي حين يبدو هذا الحراك السياسي والشعبي واقعياً قياساً بالعبء الثقيل الذي يتحمله لبنان في ظروف صعبة كهذه، لكن غير الواقعي هو تحرك تلك القوى التي استفادت كثيراً من مسألة اللجوء السوري ومقاربتها المستجدة للموضوع، فالحقيقة أن "هَبتها" تلك مرتبطة، كالعادة، بعوامل سياسية مصلحية مستجدة، لعل أبرزها مواجهة خطاب السيد حسن نصر الله الأخير، الذي تطرق فيه إلى مسألة اللجوء، طارحاً خيارات محددة وناجعة لحلحلته، ومنها بالطبع ضرورة التواصل الحكومي الجدي مع سوريا أو فتح الحدود البحرية أمام اللاجئين الراغبين في الهجرة إلى أوروبا. كما أرادت تلك القوى استغلال المزاج الشعبي الغاضب مؤخراً، والاستفادة منه في الاصطفاف السياسي والشعبي الحاد.
أما العامل الثالث والمهم جداً، فهو اقتراب موعد "مؤتمر بروكسل الثامن" الذي سيُعقد في العاصمة البلجيكية في 27 من هذا الشهر أيار/مايو، تحت عنوان "دعم مستقبل سوريا والمنطقة"، والذي أرادت تلك القوى استباقه بمثل هذه "الضغوط" بهدف الحصول على أموال إضافية من المانحين، والسعي لاحقاً إلى اقتسامها بعيداً عن أي مصلحة لبنانية أو في ما تخص اللاجئين.
والواقع أكثر وأكثر أن أي حل حقيقي لمسألة اللجوء في لبنان يبدأ من مواجهة رسمية جدية للضغوط الغربية التي مورست وتمارس على هذا البلد، ووضع القوى الكبرى الضالعة في هذا المشروع أمام خيارات محددة واضحة تبدأ من سوريا، وليس من لبنان أو أي بلد آخر، فبعد 13 عاماً من الحرب في سوريا، وبعد أكثر من 4 سنوات من استعادة الدولة السورية مساحات شاسعة من أراضيها، واستتاب الأمن فيها، لا تزال تقارير الأمم المتحدة، كما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، تعتبر أن سوريا "بلد غير آمن لعودة اللاجئين"، وتبذل كل الجهود الممكنة لمنع أي خطط أو مساعدات أو مشاريع لإعادة الإعمار أو التنمية والتطوير في المناطق المحررة من سوريا، وتمارس ضغطاً اقتصادياً خانقاً من خلال قوانين العقوبات الصارمة على الدولة والشعب السوري في الداخل، وترفض حتى مساعدة النازحين السوريين أو العائدين من اللجوء في الخارج داخل سوريا.
وهنا يكمن لب القضية في مسألة اللجوء كلها.
وبالتالي، ما دامت القوى الغربية مصرة على خططها وأهدافها العدوانية حيال الدولة السورية، فإن لبنان تحديداً سيبقى يواجه هذه المعضلة الخطيرة التي ستتطور سلباً، وبشكل دراماتيكي يوماً بعد يوماً، خصوصاً أن معركة الغرب في خنق الشعب السوري في الداخل ستدفع بأعداد جديدة من السوريين إلى البحث عن مصادر أرزاقهم خارج الحدود، وسيكون لبنان أول وأهم معبر لهم كالعادة.
لكن لبنان هذا، الذي تحول شعبه إلى ضحية جديدة، وباتت شريحة واسعة من شبابه مشاريع لاجئين بسبب السياسات الغربية التدميرية في المنطقة، لن يبقى ذلك السد الذي يسنده الغرب، وأوروبا خصوصاً، ببعض الحصى كل فترة كي يمنع عنه سيل اللاجئين، ولن يبقى ثمة خيارات واضحة في الأفق سوى البحر. فلتستعد أوروبا.