اللاعب الهامشي في حرب اليمن
بعد معارك عدن 2015، توقعت أوساط من السودانيين انتهاء المشاركة في الحرب، باعتبار أنَّ "المهمة" أنجزت، غير أنَّ العكس هو ما حدث.
تدخل الحرب المستعرة الدائرة في اليمن، الركن الأهم للجزيرة العربية، سنة جديدة من الدمار والاقتتال. وقد توسعت التحالفات والمحاور، وتعددت الجبهات، غير أنّ لاعباً آتياً من وراء البحر ظلَّ يخفت شيئاً فشيئاً، رغم وجوده في أرض القتال، وبدا مجرّداً من القوى الخائرة أصلاً، بعد استنزافه في مستنقع ربما يكون الخروج الآمن منه – إذا أمكن - مكلفاً للغاية، لكي يعود إلى الداخل الملتهب في الأساس.
صبيحة إعلان الحرب في ربيع العام 2015، لم يتوقَّع الكثيرون في السودان تسارع الأحداث بتلك الوتيرة. كان يدور في بال أكثرهم خيالاً أن يكتفي الرأي الرسمي بالدعوات إلى وحدة الصف العربي والعمل المشترك، والتي أصبحت بروتوكولية، للأسف، بفعل عقود من المكائد والمكائد المضادة التي نسفت أحلام الكثيرين بتنسيق عربي يواجه التحديات التي تواجه المنطقة.
في تلك الأثناء، فوجئ الرأي العام المحلّي باتخاذ قرار المشاركة في الحرب رسمياً من دون سردية معلنة، في جوّ يشبه انزلاق دول أوروبا قبل قرن في أتون حربها العالمية التي رسمت القرن العشرين.
اكتفت بعض الأوساط بالترويج لفكرة إعادة "الشرعية"، متمثلة بالرئيس المستقيل هادي، وكان ذلك الصوت خافتاً، في حين راحت أوساط محدثة تتبنى سردية أخرى قابلة للانتشار، ليس لموضوعيتها، بل لمواءمتها هوى طائفياً لدى بعض الجهات التي تنشط منذ وقت قريب وفق أجندات مشبوهة لإحداث نوع من الاصطفاف المحلي، مؤدية بذلك خدمةً لمحور التطبيع العربي، ومسايرةً بذلك نظيراتها في مصر وليبيا والمغرب وموريتانيا، سواء في النهج أو الدعم أو الوسائل.
وسط هذا الجو المشحون، تَفكَّر عددٌ من الكتّاب في جدوى المشاركة في الحرب، ليس من باب القوة والقوى، فالجيش في السودان هو المؤسّسة الأضخم عدداً وعتاداً وعدةً، وهو - بفعل عقود من أنظمة الحكم الشمولي القائمة على القوة العسكرية - أكثر الجهات السيادية نفوذاً وتنظيماً، وإنما من باب الرؤية الاستراتيجية، فاليمن كان على مرّ السنين جهة آمنة بالنسبة إلى السودان، بموقعه الفريد على بوابة البحر الأحمر، وكانت موانئ الحديدة وسواكن، وبعدها بورت سودان، تنشط بحركة تاريخية من النقل والاتصال عبر أمواج البحر الأحمر، وتنقل إلى جانب الركاب والبضائع تاريخاً مشتركاً، فما الجدوى إذاً من الذهاب لخوض حرب فيه؟
في حقيقة الأمر، لم تكن تلك المرة الأولى التي يشارك فيها السودان في حربٍ على اليمن، فقد شارك سابقاً في أحداث تاريخية مهمة في ذلك البلد القريب جغرافياً وثقافياً؛ أحداث امتدت من ثورة أيلول/سبتمبر 1962، مروراً بحرب الجبهة 1979، وليس انتهاء بحرب صيف 1994. وقد تفاوت فيها الدور بين المشاركة الفعلية على الأرض والوجود الاستشاري/التدريبي. وربما تظلّ المشاركة في حرب العام 1994 هي الأبرز، لقربها زمنياً من الحرب الحاليّة، ولعمق المشاركة فيها.
وقتها، كان السودان في خضم الحرب الأهلية في الجنوب، وتشابكت التحالفات والمحاور إقليمياً بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية وتسرّب أسلحتها وجيوشها المتفككة إلى شرق أفريقيا الهش، فاشتعلت حروب القرن الأفريقي ومنطقة الوادي المتصدع، وطالت ألسنة النار اليمن، الّذي مرّ وقتها بثلاث سنوات عصيبة من الوحدة الاندماجية بين شطريه المتطابقين والمختلفين في آن واحد؛ وحدة بنتها آمال وأمنيات معلّقة من قرون، ونسفتها تجاذبات واستقطابات محلية وأخرى خارجية.
حينها، أعلن الجنوب المحتفظ ببعض السلطة السياسية، وفق اتفاق الوحدة، انفصاله وعودة دولته، بشطب اسم "الشعبية"، وإجراء تغيير طفيف في بعض القيادات العسكرية، وعودة نائب رئيس دولة الوحدة، ورئيس الدولة قبلها، والأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، علي سالم البيض، صاحب القوة الأبرز سياسياً وقتها، إلى رئاسة البلاد.
هذا الانفصال الذي كان متوقعاً في ظلِّ الأزمات الداخلية، حظي بدعم من الخليج على نحو غريب، فيما فُسر على أنه نوع من العقاب السياسي لنظام صنعاء بقيادة علي عبد الله صالح، نتيجة موقف اليمن من حرب الخليج الثانية في العام 1990م، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه السودان، الذي أرسل مستشارين وقادة عسكريين وميدانيين للمشاركة في الحرب، بعدما استعرت ووصلت قذائف الطيران إلى العاصمتين عدن وصنعاء.
يومها، وقف "إخوان" السودان مع "إخوان" اليمن، بزعامة "الأحمر"، في حرب ضد معسكر الخليج. ومع انتهاء الحرب، عاد التوتر الحذِر، ثم جاءت حرب "حنيش" بين اليمن وأريتريا، ليعود السودان مجدداً ويعلن وقوفه مع اليمن في الحرب مع الجارة الشرقية للسودان.
هذا الموقف تسّبب بقطيعة سياسية بين الخرطوم وأسمرة، بينما أرسل اليمن للسودان مساعدات اقتصادية بعد عبوره أزمة حرب العام 1994 التي أتت على اقتصاده، وانتعشت الحركة التجارية والثقافية بين البلدين طوال العقد الأول من الألفية الثالثة.
بعد معارك عدن 2015، توقعت أوساط من السودانيين انتهاء المشاركة في الحرب، باعتبار أنَّ "المهمة" أنجزت، غير أنَّ العكس هو ما حدث، وانهمك الجيش في معارك انتهت بخروجه من عدن بعد ضغط من جهات محسوبة على أبو ظبي، ما ذكّر بمشهد خروج الجيش من بيروت في نهاية فترة الردع العربي في سبعينيات القرن الماضي.
وقتها، كلّف الجيش بمهمة عزل القوات المشتبكة والمشاركة في حماية المناطق الحساسة، كالقصر والمصرف المركزي، وهي مشاركة لم تستمرّ بفعل التجاذبات، ولم تكن موفقة في إنجاز المهمة، بخلاف ما حدث في العام 1961، حين شارك الجيش السوداني في عملية فصل القوات و"تأمين" استقلال الكويت بعد توتر الحدود إثر النزاع الإقليمي بين العراق ومصر على عملية الدمج.
هذه المواقف يستذكرها السودانيون كلَّما طرأت مسألة المشاركات الخارجية للجيش، والتي تعود إلى عهد الاحتلال؛ ففي ستينيات القرن التاسع عشر، أوعزت فرنسا إلى الباب العالي بضرورة استجلاب جنود للمشاركة في حربها الخاصة في المكسيك، وأعطت الأستانة موافقتها، وتحفّز الخديوي سعيد المتحمس لمشاريع فرنسا، فأرسل "الأورطى المصرية" التي كانت في قوامها الخالص سودانية...
وقد أُرسلوا بإشرافٍ ومباركةٍ من عملاء الداخل للانخراط في مغامرة عبثية من مغامرات فرنسا الاستعمارية في أحراج الشرق المكسيكي وتلاله دفاعاً عن اللاشيء؛ ربما عن ملك نمساوي، وضباط فرنسيين، وتجار إنكليز، وقساوسة إسبان، ضد "الحفاة" من أبناء المكسيك.
يبدو أنَّ هذا المشهد يتكرّر بعد قرن ونصف القرن بشكل أشد وطأةً ومأساويةً، وبحجج واهية أكثر من المرات الماضية. وبينما تغرق البلاد في أزماتها الداخلية الطاحنة، يطالب قسم من السودانيين بضرورة عودة الجيش إلى ثكناته، وعودة القوات من الخارج بالضرورة، والتوجّه إلى ما يشبه "جزأرة" الدستور، في إشارة إلى الدور الرسمي لجيش التحرير الشعبي المنصوص في دستور الجزائر، والذي يحدّ مهمة الجيش بالدفاع عن الحدود وتأمين النظام الجمهوري، ويمنع خروجه إلى الخارج.
هذه المطالب باتت راديكالية في ظلِّ نشاط جماعات تدعو إلى الانغماس أكثر وأكثر في المشاريع الإقليميّة الطائفية، وهي مطالب لم تنجح في الماضي، إذ أرسل نظام النميري الذي انغمس في الثمانينيات مع مجازفات نادي "السفاري" الموجّه أميركياً عشرات السودانيين، بصفتهم "متطوعين"، للمشاركة في حرب عبثية أخرى سلَّطها نظام صدام حسين على إيران الخارجة من ثورة شاملة، وهي حرب مولها الخليج، وسلَّحها الناتو، وأعطاها البعض غطاء دبلوماسياً، وانتهت بكارثة مطبقة على كلا البلدين، كما هي الكارثة التي حلَّت اليوم باليمن الذي كان سعيداً، بعد سنوات وسنوات من التخبّط والكرّ والفرّ على سواحل المخا وميدي وحرض.
ورغم الثورة التي أطاحت نظام البشير في ربيع العام 2019، فما زالت المشاركة جارية، وزاد عليها صمت مطبق مشبوه لنخب ليبرالية وإسلاموية إزاء الحرب في اليمن؛ نخب شارك بعضها في الحكم وصولاً إلى انقلاب تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فهل تصل الدعوات وتقع على مسامع أذن مصغية؟
ربما يدرك القادة العسكريّون استحالة تحقيق نصر بريّ، لكنَّ الأهم إدراك عبثية هذه الحرب؛ عبثية أقر بها البعيد قبل القريب والعدو قبل الصديق، وما زال هذا الإقرار يؤرق البعض ويزعجهم حدّ الاستشاطة غضباً. إلى حين ذلك، يحفظ السودانيون نبل الخصومة لليمنيين الذين يدركون حقيقة الدور الهامشي للسودان في هذه الحرب، رغم ألوف القوات، ذلك أنَّ القرار الحقيقي تفوح منه رائحة النفط المغمس بالدم؛ نبل يتجلّى في كفّ اليمانيين أقلامهم عن السودان، فضلاً عن صواريخهم ومسيّراتهم، التي يدركون أنَّ وجهتها الحقّة ليست السودان؛ اللاعب الهامشي في حرب اليمن.