الغائب الحاضر في مؤتمر العلمين الفلسطيني
بين عقم اللقاءات وما تفرزه من إحباط شعبي ونجاح طرفي الانقسام الفلسطيني في السير على حدّ السيف وفي حصر خيارات الشعب ضمن برامجهما السياسية والحزبية وفضائهما الإقليمي، جاء مؤتمر العلمين بدعوة من الرئيس محمود عباس عقب معركة بأس جنين.
انفضَّ اجتماع مؤتمر العلمين لغالبية الفصائل الفلسطينية، وقد تمخض عن تشكيل لجنة فصائلية مهمتها التمهيد لمواصلة الحوار، بما يؤدي إلى بلورة إعلان ينهي الانقسام بين حركتي فتح وحماس، في ظل غياب فصيل فلسطيني رئيسيّ هو حركة الجهاد الإسلامي، التي اشترطت لحضورها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في سجون السلطة.
شهدت السنوات الأخيرة لقاءات عديدة بين الفصائل الفلسطينية، كرّست في مجملها جواً من الإحباط، ظهرت تجلياته في نظرة الجمهور الفلسطيني إلى هذه الفصائل، وخصوصاً فصيلي إدارة الانقسام في الضفة وغزة، نظرة سلبية في العموم، ولكن قدرة السلطة الفلسطينية في الضفة على إدارة خدمات الجمهور، بما فيها مصالح الناس الملحّة صحيّاً وتربوياً، ولو بالحد الأدنى، في ظل غياب البديل الفلسطيني -وإلا فهو المحتل الإسرائيلي- شكّل للسلطة نفوذاً واسعاً استغلته في المحافظة على مكانة حركة فتح.
كما أن نجاح حركة حماس في تحويل غزة إلى ساحة بارود في مواجهة المحتل، ومشاركتها الرئيسة في عدة معارك، وغضّ الطرف عن الجهاد الإسلامي في معركة ثأر الأحرار، أعطاها شرعية نضالية وشعبية في التصدي للهمّ الفلسطيني، بموازاة دورها المتقدم في مواجهة المحتل في الضفة عبر عمليات نوعية عديدة.
بين عقم اللقاءات وما تفرزه من إحباط شعبي ونجاح طرفي الانقسام في السير على حدّ السيف وفي حصر خيارات الشعب الفلسطيني ضمن برامجهما السياسية والحزبية وفضائهما الإقليمي، جاء مؤتمر العلمين بدعوة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس عقب معركة بأس جنين غداة زيارته جنين، وقد مزق الاجتياح الإسرائيلي بنيتها الخدماتية التحتية المهلهلة أصلاً.
بأس جنين شكّل مدخلاً لعقد المؤتمر. هذا البأس تصدرت فصوله كتيبة جنين التابعة للجهاد الإسلامي، وهي التي تكفّلت بتمرير زيارة الرئيس، لأنها القوة الرئيسة في مخيم جنين، وتشكيلها منذ نفق جلبوع الذي نجح فيه أسرى الجهاد من التحرر هو الذي أدخل جنين في طور متقدم من القوة الميدانية، وهي قوة انبثقت أساساً من أثر ملحمة جنين 2002، التي كان للجهاد الدور الأساس فيها، من دون إغفال جهد حماس وفتح والشعبية بطبيعة الحال، وهو دور تقليدي لهذه الفصائل في كل المخيمات الفلسطينية.
زيارة الرئيس عباس لجنين، التي أطلق على وقع بأسها مبادرة المؤتمر، تعيدنا إلى زيارة الرئيس الراحل ياسر عرفات عقب ملحمة جنين 2002. وفي المعركتين التاريخيتين، كان المزاج الشعبي في جنين يتشكل وفق رؤية الجهاد الإسلامي مع غيرها من قوى المقاومة.
لذا، رأينا الجمهور يستقبل عباس بهتاف: كتيبة كتيبة، وهو الهتاف نفسه لصبية المخيم الذين اعتلوا آليّات الحرس الرئاسي، وتلاعبوا ببراءة جماعية بجنود الحرس، وهو يشبه اليوم الذي استُقبل فيه الرئيس الراحل عرفات بهتاف: طوالبة طوالبة، وهو جنرال المعركة وملهمها الأول الشهيد القائد في سرايا القدس محمود طوالبة.
غياب الجهاد الإسلامي المعلن سلفاً وضع حقيقة البيان الختامي للمؤتمر، وهو غياب جاء استجابة لمطلب جمهور المقاومة الذي يلحّ على وضح حدّ نهائي لسياسة الاعتقال السياسي في سجون السلطة، وخصوصاً بعد اعتقال القائد مراد ملايشة وإخوانه في كتيبة جبع لحظة الاجتياح الإسرائيلي لجنين، وبعد عدة اعتقالات أخرى في عدة مناطق فلسطينية، على خلفية الانتماء السياسي أو الرأي السياسي والنشاط ضد الاحتلال.
هذا الغياب الصريح للجهاد ضمن مطلب محدد سلفاً أفرغ المؤتمر من مضمونه، حتى كواجهة علاقات عامة أو سياحة سياسية، أو حتى في قدرته على التماهي مع المتطلبات الإقليمية في ظل ضغوطات دولية، ذلك أنَّ حركة الجهاد هي من يتحمل حالياً عبء المواجهة الرئيسي مع الاحتلال.
وقد فشل هذا الاحتلال في ضرب بنيتها العسكرية في جنين وغزة على السواء، بما منع احتمال عزلها كلاعب فلسطيني متقدم، وبالتالي غيابها عن فعاليات المؤتمر يعني حضورها في منع أدنى تفاهم خارج معادلة المعركة على امتداد الوطن.
الاعتقال السياسي يحمل رمزية مكثفة لمستوى المأزق الفلسطيني، فهو تعبير صارخ عن حالة صراع بين مشروعين، وليس انعكاساً فقط لعقلية استبدادية قمعية، وبالتالي إن مواصلة نهج الاعتقال على خلفية المقاومة، وخصوصاً بعد النجاح النسبي للسلطة في احتواء ظاهرة عرين الأسود في نابلس بعد فشل الاحتلال العسكري رغم الاغتيالات والاعتقالات والاقتحامات، يطرح سؤالاً كبيراً عن هامش الحد الأدنى بين أجندة الفصائل الفلسطينية، باعتبارها موزعة بين مشروعين؛ أحدهما يقاوم، والآخر يساوم، إلا إذا اقترب أحدهما أو كلاهما من برنامج الآخر خطوة، ولو بالحد الأدنى.
استبق فصيلا الانقسام الفلسطيني مؤتمر العلمين بلقاء أنقرة بين الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، وهو لقاء تم برعاية مباشرة من الرئيس التركي إردوغان. وقد عكس طبيعة التمحور الإقليمي، وخصوصاً أن مؤتمر العلمين عُقد في القاهرة برعاية مباشرة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكأن الطرفين يعيان سقف التوقعات من هذا المؤتمر.
رؤية الغائب الحاضر في المؤتمر، وهي رؤية الجهاد الإسلامي الجذرية للصراع مع المحتل الإسرائيلي، لا تتفق، ولو بالحد الأدنى، مع هذا التمحور الإقليمي، فالتركي يتحضر للقاء عملي فاعل مع رئيس حكومة الائتلاف اليميني الحاكم في "تل أبيب" بنيامين نتنياهو، وهو لقاء يختلف بالتأكيد عن اللقاء الرمزي لإردوغان مع عباس وهنية. أما المصري، فهو بوابة غزة الوحيدة في الحصار، وهي بوابة تفتح وتغلق وفق القرار الإسرائيلي، ويأتي تعاطي الجهاد مع البوابة المصرية وفق إدارة الصراع، بما لا يخفى على متابع.
الغياب الإيجابي للجهاد الإسلامي يمكن البناء عليه، وخصوصاً بعد فشل المؤتمر الصريح، وهو بناء يمكنه دفع طرفي الانقسام إلى لحظة تاريخية فارقة تخرجهما من مرابضهما، بما يساعد على لقاء فلسطيني محض يتم هنا في فلسطين خارج مربع الضغوط والاصطفاف، تبعاً لهمّ الجمهور وأولوياته في التحرر من الاحتلال.