العدوان الأميركي على العراق وسوريا... قراءة في الدوافع وتقدير لنتائجه المفترضة
الهدف من التحرك الأميركي في هذه اللحظة المفصلية قد يستهدف محاولة كسب نقاط يمكن من خلالها فرض قواعد اشتباك تلغي مفاعيل ما حققته المقاومة على امتداد ساحاتها، وخصوصاً العراقية.
لم يكن الوقت الطويل الذي فصل بين اتخاذ الإدارة الأميركية قرارها بالرد على استهداف من ادعت مسؤوليتهم عن الضربة التي طالت جنودها على الحدود الأردنية وتنفيذه هو المعطى الوحيد اللافت، إذ تدلل المعطيات التي رافقت هذا القرار منذ اتخاذه على ما يجعل من الضروري قراءته بطريقة مختلفة عن الصورة التي أرادت الإدارة الأميركية إظهارها من خلاله.
بحسب الرئيس بايدن، استهدفت الطائرات الأميركية منشآت يستخدمها حرس الثورة الإيراني وبعض الفصائل الحليفة التي يُقدر أنها مسؤولة عن الهجمات التي طالت القواعد الأميركية في المنطقة، بما يمكن أن يُضعف قدراتها على مهاجمة القواعد الأميركية بشكل كبير.
وإذا كان الرئيس بايدن ومدير العمليات في هيئة الأركان المشتركة الأميركية حاولا الإيحاء، من خلال توقيت بدء الهجوم وكثافة الذخائر المستخدمة وفاعليتها، مع أهمية اختيار توقيت الهجوم بالتزامن مع وصول جثامين القتلى الثلاثة إلى الولايات المتحدة، بفاعلية وصرامة الإدارة الأميركية في مواجهة التهديدات التي تطال مصالحها، وبالتالي مشروعها في المنطقة، فإن المحددات التي سبقت هذا الهجوم ورافقته فيما بعد أوحت بعكس ذلك.
وإذا كانت الرسالة الأساسية الأولى التي ركز عليها بايدن في إعلانه عن الضربات هي التأكيد أن الولايات المتحدة سترد دائماً على من يلحق بها الأذى، فإنه في تشديده والمتحدث باسم الأمن القومي جون كيربي على أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى الحرب مع إيران ولا إلى صراع في الشرق الأوسط أظهر حاجة الولايات المتحدة إلى تنفيذ هذه الضربات من أجل تحقيق غايات لا ترتبط بالردع والانتقام، إنما بالإطار المعنوي أو الإعلامي الذي تفرضه ظروف الولايات المتحدة في الإقليم، إضافة إلى ظروف الرئيس بايدن في الداخل الأميركي.
على مستوى الواقع الأميركي في المنطقة الذي أُثخن بالضربات المباشرة وغير المباشرة منذ طوفان الأقصى، جاءت الضربات التي تعرضت لها القواعد الأميركية في كل من العراق وسوريا، وآخرها على الحدود الأردنية، لتضيف إلى فشل الجهود التي بذلتها الإدارة الأميركية للحد من دور ساحات المقاومة في مسار العدوان على غزة إشكالية ترتبط بمدى قدرتها على ردع فصائل المقاومة عن توجيه ضربات إلى قواعدها الموجودة خارج حدود جغرافيا الصراع.
وإذا أضفنا هذا الواقع إلى العقبات التي حالت دون الظهور في موقع القادر على ضبط سلوك الكيان الإسرائيلي، إذ رفضت حكومة الكيان كل المقترحات الأميركية حول الحرب في القطاع، إضافة إلى مجاهرة بعض اليمين المتطرف بضرورة الوقوف في وجهها تحت شعار أن مصلحة الكيان تفترض ذلك في بعض الأحيان، فإن ذلك سيطرح إشكالية جديدة تتعلق بمدى قدرة الولايات المتحدة على ملاقاة الدور الإسرائيلي الذي عجزت عن ضبطه بعدما كان من المفترض أنه لا يخرج عن إطاره الوظيفي المحدد في الدوائر العميقة للقرار الأميركي.
وإذا قاطعنا هذا الواقع مع ما يعانيه الرئيس الأميركي في الداخل الأميركي، حيث الظروف المعقدة التي يواجهها لناحية التقدم الذي يحققه الرئيس السابق دونالد ترامب على مستوى انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية، معطوفةً على تخلفه عن هذا الأخير بـ6 نقاط، بحسب نتيجة استطلاع أجرته رويترز وأبسوس، من دون أن نهمل عقدة تكساس التي أظهر منعها قوات أجهزة الهجرة الفدرالية من دخول مناطق مجاورة لمعبر "إيغل باس" عجز الإدارة الحالية بشخص رئيسها عن ضبط العلاقة بين الحكومة الفدرالية والولايات، والتي ساعدت في تكريس صورة القيادة الهرمة والمنكفئة التي يحرص الحزب الجمهوري ودونالد ترامب على التسويق لها، سيظهر تحرك الإدارة الأميركية الأخير في الشرق الأوسط كخيار يمكن من خلاله الحد من تداعيات هذا الواقع المتردي.
من ناحيته، لم يظهر الداخل الأميركي حماسة للعدوان الأميركي على العراق وسوريا؛ فقد أظهر التقاطع الذي أمكن لمسه بين السياسيين الأميركيين، كرئيس مجلس النواب الأميركي، ووسائل الإعلام، عدم الاقتناع بالردع كهدف معلن، وذلك من خلال الإشارة إلى المدة التي استغرقتها الإدارة الأميركية قبل تنفيذ ضرباتها، بما أمكن اعتبارها فرصة لتجنب إلحاق العدوان خسائر بشرية قد تدفع إلى تصعيد غير مقصود، إضافة إلى التركيز على اعتبار هذه الضربات بمنزلة خيار سيدفع في نتائجه إلى ضرورة التفكير الجدي في كيفية التعاطي مع الواقع العراقي المستجد. وفي هذا الإطار، تبرز إشكالية تأكيد الإدارة الأميركية عدم وجود نية لمواجهة إيران بطريقة مباشرة.
وفي مواجهة محورٍ يصرّ على إحراج الولايات المتحدة وإخراجها من المنطقة، يظهر استهداف بعض المواقع شبه الخالية لأطياف المقاومة العراقية وحرس الثورة كمحاولة لتسجيل رد معنوي لا يتخطى ضجيجه ما يمكن أن يظهر في وسائل الإعلام من دون أي تأثير حقيقي في قدرات تلك الأطياف الحقيقية.
إضافة إلى ذلك، أمكن في هذا الإطار الحديث عن اختيار الإدارة الأميركية ساحة تدّعي من خلالها الالتزام بدعم الكيان والانخراط إعلامياً في حربه من دون أن تعرض نفسها لمخاطر الدخول في ميدان غزة وفلسطين بشكل مباشر.
من ناحية أخرى، يمكن الملاحظة بشكل واضح مصادفة هذا العدوان مع الحديث عن إمكانية التوصل القريب إلى اتفاق لتبادل الأسرى بين الكيان والمقاومة الإسلامية "حماس". وإذا انطلقنا من التأكيد الأميركي على ضرورة التوصل إلى اتفاق يؤكد قدرة الولايات المتحدة على ضبط السلوك الإسرائيلي بما يمنع توسع نطاق الحرب الدائرة في غزة، كان من المفترض عدم التحرك بما يمكن أن يضع المنطقة على شفير حرب شاملة.
وبناء عليه، يمكن التقدير أن الهدف من التحرك الأميركي في هذه اللحظة المفصلية قد يستهدف محاولة كسب نقاط يمكن من خلالها فرض قواعد اشتباك تلغي مفاعيل ما حققته المقاومة على امتداد ساحاتها، وخصوصاً العراقية، منذ طوفان الأقصى، على أن ذلك قد يصنف في خانة المقامرة غير مضمونة النتائج.
وبعدما عملت الحكومة العراقية في الأيام السابقة للعدوان على دفع المقاومة العراقية إلى إعلان تعليق استهداف القواعد الأميركية بحجة عدم إحراجها، وبما يمكن أن يساعد الإدارة الأميركية من خلال التفاوض على تأخير أو تمييع عملية جدولة الانسحاب الأميركي من العراق، وبالتالي من سوريا، لانعدام مقومات بقائها إذا خرجت من العراق، يمكن التأكيد أن هذا العدوان قد يؤدي إلى دفع الحكومة العراقية إلى تسريع عملية جدولة الانسحاب تحت ضغط الشارع العراقي وإصرار المقاومة على الرد من خلال إعادة استهداف القواعد الأميركية، فالسردية الأميركية التي تصر على تأكيد الغاية من وجودها في العراق تحت عنوان دعم الشرعية العراقية وحفظ سيادتها لم تعد صالحة في ظل تحول القوات الأميركية إلى قوات معتدية على السيادة العراقية.
وإذا قاطعنا هذا الواقع مع ظروف الولايات المتحدة المتردية نتيجة فشلها في البحر الأحمر وفقدانها فاعلية الدور الإسرائيلي المترنح في غزة والعاجز في شمال فلسطين المحتلة، إضافة إلى انكفاء جبهة التطبيع وتجنبها الوقوف الصريح إلى جانبها في هذه المعركة، يمكن التقدير أن النتائج المفترضة من هذا العدوان لن تحقق الحد الأدنى المقبول في دوائر القرار الأميركية، إنما قد تدفع إلى تراجع دراماتيكي، وخصوصاً إذا اتخذ محور المقاومة قراراً بمقابلة التصعيد بالتصعيد.