العدو يبحث عن مخرج في سوريا والعراق
انتصار المقاومة أكبر بكثير من قضية الأسرى، ومن كلّ ما عرفناه في المواجهات مع العدو في الماضي، وإن كان نتيجة تراكمية لكلّ تلك المعارك المجيدة.
في الحديث عن وقف إطلاق النار في غزّة، يركّز الكثير من المحلّلين على قضية الأسرى الصهاينة لدى المقاومة، بصفتها نقطة القوة الرئيسة بيد المقاومة، ويسهب هؤلاء المحللون ومعهم الكثير من وسائل الإعلام في التعليق على الفيديوهات التي تطلقها المقاومة لهؤلاء الأسرى، ويرون فيها دليلاً على وحشية العدو الذي لا يتورّع عن قتل أسراه.
رغم أهمية هذه القضية خاصة في الحرب النفسية التي تشنّها المقاومة ضد العدو، إلا أنها لم تعد القضية الرئيسة أو نقطة قوة المقاومة الأهم، فملف الأسرى مؤجّل إلى ما بعد وقف إطلاق النار بحسب تصريحات قادة المقاومة، والضجة المثارة حول هذه القضية ليست سوى محاولة لإبعاد النظر عن المسار الذي اتخذته الحرب، والذي يشكّل ضغطاً عسكرياً على العدو وحلفائه والتي تدفعه للموافقة على وقف إطلاق النار، وإعطاء الأمر صفة إنسانية.
في الأيام الأولى من معركة طوفان الأقصى، ذهب جميع المحلّلين الاقتصاديين والعسكريين باتجاه التحليلات التقليدية التي تعتمد على فكرة حرب محدودة، تنتهي بتبادل للأسرى وتحرير عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين.
لم يخطر ببال أي منّا أن محور المقاومة بأطرافه كافة، كان مستعداً لهذه المعركة سواء على الأرض من خلال المقاومة الفلسطينية في غزة، أو من خلال التنسيق والتخطيط الاستراتيجي الذي ظهر بجلاء في الدخول التدريجي والمدروس لأطراف محور المقاومة في المعركة بشكل يشتت قوى العدو، ويشكّل ضغطاً كبيراً على قواته العسكرية في المنطقة.
اليوم تمتد ساحة المعركة من بحر العرب في الجنوب، وحتى حارم شمال حلب في الشمال، ومن حيفا في الغرب حتى العراق شرقاً، مروراً بجنوب لبنان حيث حوّل حزب الله ومقاوموه مستوطنات الشمال الفلسطيني إلى مدن أشباح، والضفة الغربية حيث تتصاعد المقاومة العسكرية والشعبية مبشّرة باحتمال قيام انتفاضة ثالثة، تكنس كل نتائج اتفاقيات أوسلو وتعيد الحالة النضالية في فلسطين إلى مسارها الحقيقي والصائب.
هذا التمدّد في ساحة المعركة فرض على الصراع مع العدو الصهيوني معطيات جديدة لا يمكن تجاوزها. لقد سقطت كل الخرافات والأوهام المرتبطة بعملية السلام التي بدا للبعض أنها أصبحت قريبة من النجاح. في الوقت نفسه استعاد مصطلح "الصراع العربي الإسرائيلي" مكانته في العقلية المقاومة العربية، خاصة وأنه أصبح مدعوماً بقوة إقليمية مهمة تمثّلها الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
المعطى الأهم أنّ "إسرائيل" ظهرت كـ "دولة" عادية ضعيفة، غير قادرة على المواجهة من دون دعم غربي مباشر، هذا المعطى سيدفع قوى المقاومة داخل وخارج فلسطين إلى إعادة الكرّة ومهاجمة هذا الكيان الضعيف كلما سنحت الفرصة، وهو القلق الأهم الذي يعتري الكيان وحلفاءه في الغرب والعالم العربي.
استطاعت الجبهة اليمنية إعطاء المعركة بُعداً دولياً، إذ تشير البيانات الاقتصادية التي أصدرها البنك الدولي إلى ارتفاع أسعار الشحن الدولي بثلاثة أضعاف ما كان عليه في بداية عام 2023، وأن استمرار الاضطرابات في البحر الأحمر حتى شهر آذار/مارس المقبل يهدّد بالعودة إلى أزمة سلاسل التوريد التي رافقت وباء كورونا، إذ ارتفعت أسعار الشحن بثمانية أضعاف ما كانت عليه.
هذا الارتفاع سيؤدي إلى سلسلة من الأزمات بما فيها زيادة التوتر بين الدول الصناعية بسبب التنافس على مساحات الشحن.
على جبهة جنوب لبنان، والعراق وسوريا، استطاعت قوى المقاومة وضع الحرب على قمة أولويات أجندة القضايا الإقليمية، وسط تهديد متصاعد بتحوّل معركة طوفان الأقصى إلى حرب إقليمية، خصوصاً في ظل التهديدات والاعتداءات الأميركية المتواصلة على محور المقاومة، والحديث المتصاعد عن الاعتداء على العمق الإيراني، الأمر الذي سيدفع إيران للانتقال من دعم محور المقاومة عسكرياً ولوجستياً إلى الانخراط المباشر في المعركة.
هذا الخطر دفع بعض الدول وخاصة المملكة العربية السعودية إلى اتخاذ موقف النأي بالنفس عن الأحداث، والتظاهر بالانشغال بقضايا الاقتصاد والسياحة وتنظيم المهرجانات، حتى لا تكون في عين العاصفة في حال حدوث مواجهة إيرانية أميركية، من دون أن يعني ذلك أنها ليست قلقة من انعكاسات هذه المواجهة على حركة التجارة في الخليج.
وسط هذه التعقيدات جاء الهجوم الذي شنّته المقاومة على قاعدة "البرج 22" الأميركية في الأردن، والردّ الأميركي غير المتوازن تجاه العراق وسوريا، والذي استهدف مواقع للجيش العربي السوري، وقوات الحشد الشعبي التي تعتبر جزءاً من القوات النظامية العراقية، ليزيد المشهد تعقيداً.
من المؤكّد أنّ ردّ المقاومة على هذا العدوان قائم، ما يمكن أن يفجّر مواجهات حقيقية مع القوات الأميركية الموجودة في سوريا والعراق وحتى الأردن، ويقود المنطقة إلى الحرب الإقليمية التي يتحدّث عنها الجميع.
من ناحية أخرى يمكن أن تزيد هذه الغارات من تعقيد المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزّة، مما يمنح حكومة نتنياهو فرصة لإعادة ترتيب صفوفها، خاصة في ظل تهديد سموتريتش وبن غفير بالانسحاب من الحكومة وإسقاط حكومة نتنياهو في حال وقّع على صفقة وقف إطلاق النار.
فقد برزت الجهود الأميركية في إنقاذ نتنياهو بإعلان زعيم المعارضة في الكنيست الصهيوني يائير لابيد استعداده لضمان بقاء حكومة نتنياهو لمدة عام إن وقّع على الصفقة، من دون المشاركة في الحكومة.
انتصار المقاومة أكبر بكثير من قضية الأسرى، ومن كلّ ما عرفناه في المواجهات مع العدو في الماضي، وإن كان نتيجة تراكمية لكلّ تلك المعارك المجيدة. اليوم يبحث العدو عن مخارج لأزماته السياسية والعسكرية، وهو يدرك أن الحلّ الوحيد المتاح هو الرضوخ لشروط محور المقاومة.