الطبول في كييف وشويغو في دمشق: المواجهة أوسع من حدود أوكرانيا
من المتوقّع أنْ تقوم دمشق وموسكو والحلفاء في محور المقاومة بتحريك الجبهات السّورية في المناطق التي توجد فيها القوات الأميركية وحلفاؤها من الأتراك والتنظيمات المتطرفة.
تغيّر العالم كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانتهاء المواجهة الكبرى بين الاتحاد السوفياتي والغرب. لم تبقَ روسيا كما "أحبّها" الغرب وأراد لها أنْ تكون أيام الرئيس بوريس يلتسين، إذ يجلس رؤساء أميركا ودول حلف "الناتو" إلى جانب الرئيس الروسي ضاحكين طوال الوقت على طرائفه التي كان يطلقها وهو شبه ثمل، ولم يكتفِ الغرب من دول الاتحاد السوفياتي السابق بما آلت إليه من تفتّت ولهاث باتجاه الناتو والاتحاد الأوروبيّ، وانتشارٍ لثقافة الاستهلاك الغربية وعصابات "المافيا" المستعدة لبيع كلّ شيء، بما في ذلك الأسلحة النووية.
كما أنه لم يجد نفسه مضطرّاً إلى الوفاء بعهوده التي قطعها أمام ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتيّ، أو بالاتفاقيات التي عقدها معه، ومنها اتفاقية الأسلحة النووية المتوسطة المدى التي أُبرمت في العام 1987، والتعهّد بعدم اقتراب "الناتو" من بلدان الحديقة الروسية.
هذا الأمر الأخير تحديداً دفع صانع "روسيا الجديدة" أو "روسيا العائدة"، فلاديمير بوتين، إلى الصراخ غضباً أكثر من مرة، متّهماً الغرب بالكذب والخداع في هذا الشأن وغيره، وبأنّ موسكو لن تقف مكتوفة اليدين أمام هذا التمدّد الَّذي يُشكّل خطراً استراتيجيّاً من الدرجة الأولى، وخصوصاً بعد قيام حلف شمال الأطلسي بنشر الدرع الصاروخية في بعض دول أوروبا الشرقية القريبة من روسيا، والتدخّل لصنع "ثورات ملوّنة"، ودعم الجماعات المناوئة لروسيا في تلك البلدان.
لم يقرّر بوتين الحضور عسكرياً في سوريا في أوج استعار الحرب فيها لأنّه أراد الدفاع عن نظام حليف أو الحفاظ على نفوذ تاريخي على شواطئ هذه البلاد فحسب، بل لأنّ سوريا كانت، وما زالت، جبهة متقدّمة للدفاع عن موسكو نفسها. وقد شكّل الصراع فيها أيضاً فرصة عظيمة لعودة روسيا بقوّة إلى الساحة العالمية لمواجهة الغرب من جديد، وكبح جماح أطماعه التي بلغت نوافذ البيت الروسي من جميع الاتجاهات.
ويجب أن نتذكّر هنا أنّ أسطول الطائرات الحربية الروسية وصل في أيلول/سبتمبر 2015 إلى قاعدة "حميميم" على الشواطئ السورية، بعد مرور حوالى عام فقط على تحريك الغرب الجبهة الأوكرانية الداخلية عن طريق النازيين الأوكرانيين الذين وثبوا على مؤسَّسات الدولة، وهروب الرئيس الأوكراني إلى موسكو، والذي أفضى إلى هجوم روسي على شرقي أوكرانيا وإعلان إعادة ضمّ جزيرة القرم إلى "الوطن الأم" روسيا.
كما يجب أن نذكر أنّ الحضور الروسيّ لم يتوقّف عند سوريا، بل بلغ شمال أفريقيا (ليبيا) أيضاً، وبدا أنّ موسكو مستعدة للولوج من كلّ الثغرات التي تُوصل إلى قلب صفوف العدو، حيث النفوذ الأميركي والأوروبيّ، وإيجاد موطئ قدم هناك، واتّخاذ وضعية القتال.
وفي الوقت الَّذي كانت الولايات المتحدة تدشّن حملة إعلامية وسياسية غير مسبوقة من نوعها، تضع فيها المواقيت والسيناريوهات للاجتياح الروسيّ المفترض لأوكرانيا، إذ حدّدت الدوائر الأميركية صبيحة 16 شباط/فبراير الجاري موعداً للهجوم (الغريب أنّ واشنطن نفسها عجزت عن تحديد موعد خروج قواتها من أفغانستان، وانسحبت بعد 9 ساعات فقط من تصريحٍ رسميّ حدّد الموعد بعد 9 أشهر)، وبينما كان الرئيس جو بايدن يخاطب الأميركيين، طالباً منهم الاستعداد لكلّ تداعيات المواجهة مع روسيا وما أسماه وجوب "دعم الديمقراطية" في أوكرانيا، كان الرئيس السوري بشار الأسد يقف على أبواب قصر الشعب في دمشق، مستقبلاً وزير الدفاع الروسيّ سيرغي شويغو، وكانت أكثر من 15 سفينة عسكريّة روسية من أساطيل الشمال والمحيط الهادئ والبحر الأسود، من بينها 3 من طراز "قاتلات حاملات الطائرات"، تصل إلى قبالة ميناء طرطوس السوريّ، لتبدأ تدريبات عسكريّة تُشرِك فيها أحدث الأسلحة التي لم تظهر من قبل، ومنها صواريخ "كينغال" الفرط الصوتيّة التي يصعب اعتراضها، والمصمّمة لتدمير أساطيل العدو، محمولة على قاذفات استراتيجية من طراز "ميك 31 ك" و"تو 22 إم"، حطّت في مطار قاعدة "حميميم" قرب اللاذقية.
لم تبدأ موسكو حرب واشنطن المأمولة على أوكرانيا. وبدلاً من أنْ تُطلق القاذفات الروسية أسلحتها الجديدة باتّجاه أوكرانيا التي باتت تغصّ بالسلاح الغربي، فضّل فلاديمير بوتين أنْ يُظهر تلك الأسلحة في سوريا، وفي لحظة الحرب التي حدّدتها واشنطن.
تُعتبر سوريا واحدة من أهمّ ساحات المواجهة الروسية مع الولايات المتحدة الأميركيّة، ولا نبالغ إنْ قلنا إنّها واحدة من أهمّ جبهات الحرب الأوكرانية ذاتها، ذلك أنّها الميدان الوحيد الذي تتقابل فيه القوات الروسية والأميركية على بقعة أرض واحدة، بعيداً عن "الدّرع الصاروخيّة" التي زنّرت بها الولايات المتحدة روسيا، ولأنّ بإمكانها أنْ تكون ساحة الكِباش المباشر مع العدو الرئيسي الذي أراد حرباً بالوكالة - هو بأمسّ الحاجة إليها - في أوكرانيا، فقد أرادت واشنطن توريط أوروبا في صراع عسكريّ على تخوم روسيا وتحييد موسكو عن الصراع الأميركي – الصينيّ، بإشغالها في حرب طويلة تترافق مع عقوبات أميركية وأممية صارمة تتزامن مع الحرب.
هذا الأمر بإمكانه أنْ يُعوّم الإدارة الأميركية الغارقة في مشاكل داخلية وخارجية لا تُعدّ ولا تحصى، وهي تقف على أبواب الانتخابات النصفية بمعدّل تضخّم تجاوز عتبة 7,5%، ويعفيها من مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، إذ يقوم الأوكرانيون والأوروبيون بالأمر نيابةً عن الأميركيين الذين يكتفون بوضعهم في "الناتو"، وبإدارة الحرب العسكرية والسياسية والاقتصادية من مكاتبهم في البيت الأبيض والبنتاغون وأروقة الأمم المتحدة، الأمر الَّذي فهمه فلاديمير بوتين وقادة روسيا العسكريون والسياسيون جيّداً، إذ قرّروا تفويت هذه الفرصة على الإدارة الأميركية، والظهور في طرطوس السوريّة لوضع سكّة الصراع في مسارها الصحيح، حيث المواجهة مباشرة تماماً، لا يخرقها سوى وجود بعض الوكلاء الميليشياويين، مثل تنظيمي "القاعدة" و"داعش" وباقي الأدوات الأميركية الموجودة في سوريا، والتي استنفدت كلّ أغراضها الاستراتيجية الأميركية، وباتت واشنطن تلعب بها في الوقت المُستقطع من الصراع الكبير.
وبالتالي، من المتوقّع أنْ تقوم دمشق وموسكو والحلفاء في محور المقاومة بتحريك الجبهات السّورية في المناطق التي توجد فيها القوات الأميركية وحلفاؤها من الأتراك والتنظيمات المتطرفة، وتكثيف الضغط على واشنطن وقواتها التي تحتلّ أراضي سورية، وصولاً إلى طردها وتغيير الواقع العسكريّ في تلك البقعة المهمة استراتيجيّاً لموسكو وواشنطن على السواء.
وهنا، لن يكون لأوروبا ذاك الدور الكبير، ولن تستطيع تحريك أيّ قوات عسكرية للقتال بالنيابة عن واشنطن، بل إنّها ستكون في مرمى الصواريخ الاستراتيجيّة المتمركزة في "حميميم"، وستكون البوارج الروسية العاملة على الشواطئ السورية المقابلة لأوروبا ومنطقة عمل حلف شمال الأطلسي الرئيسية على مقربة من السفن العسكرية الأميركية والأوروبية الموجودة في البحر المتوسط، ومن قواعد "الناتو" في قبرص وتركيا واليونان وإيطاليا، وذاك كله ينطبق على أنقرة أيضاً، وهي الّتي تطلب منها واشنطن التصعيد على كلّ جبهات نفوذها القريبة من موسكو.
وبالتالي، لم يختر بوتين عبثاً الجبهة السورية لإعلان المواجهة على طريقته، بل لأنّ "حميميم" تُشكّل أيضاً مخلباً روسيّاً يمتدّ باتجاه قلب "الناتو" تماماً، ولأنّ بإمكانها أنْ تقطع طريق الغرب نحو الشرق، وتؤمّن طريق الصين ذاتها، في حال أرادت واشنطن جرّ بكين إلى الحرب، عن طريق خنقها في مجال إمدادات الطاقة.
من جهة أخرى، لم يعد بإمكان الغرب تقديم الكثير في سوريا والمنطقة العربية، فقد قامت الدول الغربية بكلّ ما طلبته منها واشنطن لتغيير الواقع السياسي والعسكريّ في سوريا، وها هي النتائج ماثلة أمام الجميع، فالرئيس الأسد يعمل بنشاط من مكتبه في دمشق، وأوراق التفوق العسكريّ على الأرض السورية والعراقية باتت جلّها بين أيدي الجيش العربي السوريّ وحلفائه في المحور المواجه لواشنطن وحلفائها.
وها هي درّة الصواريخ الروسية "الفرط الصوتيّة" الفتّاكة تتخذ مواقعها على شاطئ المياه الدافئة قبالة طرطوس واللاذقية أمام نظر الدول العربية المجاورة التي كان مطلوباً منها التورط في الحرب الأوكرانية، عن طريق تحويل إمدادات الطاقة من الصين باتجاه أوروبا التي ستنقطع عنها مصادر الطاقة الروسية بسبب الحرب، وهي الدول الغارقة في وحول اليمن العميقة، والتي باتت أراضيها ومنشآتها تستقبل المسيّرات والصواريخ اليمنية، وتواجه مخاطر توقف الاستثمارات فيها وانهيار اقتصاداتها بسبب هذه الهجمات، من دون أن تجد من يُنزلها عن هذه الشجرة الأميركية اللعينة.
يأتي ذلك بينما تحضر موسكو بكلّ قوتها إلى الإقليم، وتضع الدول العربية أمام واقع جديد لا يمكن إغفال التفوق الروسيّ فيه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أبرز هذه الدول العربية الحليفة لواشنطن تقليديّاً، باتت تعتمد على الصين وروسيا في الكثير من الصفقات العسكرية والاقتصادية، وبالتالي ستكون من أبرز الخاسرين في أيّ اصطفاف عسكري واقتصاديّ في حروب واشنطن مع موسكو وبكين.
لقد شكّلت الحرب السورية واحدة من أخطر الأزمات العالمية خلال العقود الأخيرة، وأفضت إلى تغييرٍ رئيسيٍّ في موازين القوى في العالم أجمع، فقد عادت روسيا إلى واجهة المنافسة العالمية من البوابة السورية، لتفرض نفسها لاعباً جديداً في مواجهة "الناتو" وواشنطن، بعد أن استفردت الأخيرة بقيادة النظام العالميّ لأكثر من عقدين ونصف العقد.
وقد تزامنت هذه الحرب مع صعود الصّين وتشكيلها خطراً استراتيجيّاً على هذه القيادة الأميركية، وشكّل الصمود السوري نقطة ارتكاز قوية للصين في هذه المنطقة المهمة والاستراتيجية بالنسبة إليها أيضاً. ويمكن القول هنا إنّ قتال السوريين وحلفائهم في محور المقاومة، من طهران إلى بيروت، مروراً بالعراق وفلسطين، وانتصارهم على المشروع الغربيّ في هذه المنطقة المهمة، شكّل رافعة أساسيّة ومتينة لصعود المحور العالميّ المناوئ لأميركا وحلف شمال الأطلسيّ.
والآن من جديد، تثبت سوريا في هذه اللحظة الخطرة أنها في قلب الحدث العالميّ، وبإمكان إيران وقوى المقاومة معها أنْ يكونوا فاعلين جدّاً في التغيير القادم الذي تتصدّره موسكو وبكين؛ ففي الوقت الذي كانت أنظار العالم تتجه باتّجاه الحدود الأوكرانية، منتظرةً بدء العمليات القتالية وفق التوقيت الأميركي، اختارت روسيا أنْ يظهر وزير دفاعها المسؤول عن قيادة الحرب، إلى جانب الرئيس السوري في دمشق، يناقشان موضوع المواجهة مع الغرب على مساحات أوسع بكثير من ساحة أوكرانيا، وبحسب التوقيت المحليّ لمدينة طرطوس الساحلية السوريّة، بينما ترسم موسكو للأزمة الأوكرانية ترتيبات أخرى، تكون جزءاً من الحرب، لا الحرب كلها.
ومثلما كانت سوريا بوابةً لعصر القوة العالميّ الجديد، فمن الواضح أنّ أزمة أوكرانيا ستضع سوريا في مقدمة الخارطة العالميّة، كواحدة من البلدان العائدة بقوّة، نظراً إلى كلّ ما هو استراتيجي ونوعيّ في موقعها من الصراع الساخن في الساحة العالمية الآن.