الصين.. تحديات أمنية ومخاوف اقتصادية
تدرك بكين أنه لا يمكن لأيّ دولة عظمى أن تبقى وتتمدد، إلّا إذا كانت قادرة على حماية مصالحها عند الضرورة. من هنا، بدأ التفكير في ضرورة بناء جيش قادر على خوض الحروب وكسبها.
يُعقد في العاصمة الصينية بكين الاجتماع السنوي للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني (ثلاثة آلاف عضو) في الفترة 4-11 آذار/ مارس، وهو الاجتماع السياسي الرئيس لهذا العام.
وكانت الدورة الماضية شهدت تنصيب الرئيس شي جين بينغ رئيساً للبلاد لولاية رئاسية ثالثة في حدث غير مسبوق، وهو ما يكرس زعامة شي ويؤكد شعبيته وأهمية النجاحات التي حققتها البلاد في عهده، خلال الأعوام الماضية. فهو صاحب أكبر مشروع اقتصادي عرفه التاريخ "الحزام والطريق"، وفي عهده أصبحت الصين ثاني اقتصاد في العالم، والاقتصاد الأول منذ عام 2014 إذا ما تمت المقارنة وفقاً للقوة الشرائية.
الولاية الثالثة للرئيس شي تم ربطها باستكمال بناء الجيش الصيني، والذي سيتصادف مع الذكرى المئوية لتأسيسه في عام 2027.
استكمال بناء الجيش يعني قدرته على خوض حروب خارجية. لذا، تتجنب بكين في الوقت الحاضر أي مواجهة مع الولايات المتحدة إلا إذا فُرضت عليها تلك المواجهة.
تدرك بكين أنه لا يمكن لأيّ دولة عظمى أن تبقى وتتمدد، إلّا إذا كانت قادرة على حماية مصالحها عند الضرورة. من هنا، بدأ التفكير في ضرورة بناء جيش قادر على خوض الحروب وكسبها، تكريساً لشعار "دولة مزدهرة وجيش قوي".
ولأن دور الجيش لا يقتصر فقط على حماية حدود الدولة الجغرافية القائمة، بل يمتد ليشمل حماية مصالحها الاستراتيجية فيما وراء الحدود، ومع طرح مشروع الحزام والطريق في عام 2013، تغيرت حدود الصين من الحدود الطبيعية إلى "الحدود الشفّافة"، فأصبحت حدودها تصل إلى حيثما تصل مصالحها في العالم. وكذلك، تغير مفهوم السيادة الإقليمية للصين، لينتقل من أراضي الدولة الصينية إلى مناطق أخرى من العالم وفقاً لنظرية الامتداد الإقليمي.
الظهور المتكرر للرئيس الصيني في اللباس العسكري بات حدثاً مقلقاً لأعداء بكين، وخصوصاً أن الصين لطالما كانت تتحدث بهدوء وتتصرف بحكمة.
يدرك الصينيون حجم المخاطر والتحديات التي باتت تحيط ببكين، بحيث سعت واشنطن لنسج طوق من التحالفات مع الدول المحيطة بالصين، وشجعتها على زيادة موازناتها العسكرية، وادخلتها في تحالفات هدفها مواجهة النمو الصيني.
التوترات في منطقة بحر الصين الجنوبي لا تقل عن غيرها من البحار والممرات الاستراتيجية الدولية.
عدم حدوث أي صدامات في المنطقة ناجم عن الهدوء الصيني والعقلانية السياسية لبكين، التي ما زالت حتى اليوم قادرة على تفويت الفرصة على أعدائها.
المرونة الصينية لا تعني الليونة مطلقاً، فبكين استطاعت، خلال الأعوام الأخيرة، رسم خطوطها الحمر، والتي لم يتجرأ أحد على تجاوزها أو المساس بها.
المواءمة بين الاقتصاد والأمن
تعاني الصين سلسلة من التحديات الاقتصادية، تشمل تراجع القطاع العقاري، وارتفاع نسبة البطالة لدى الشبان، وتباطؤ الاقتصاد العالمي الذي أدى إلى تراجع الطلب على المنتوجات الصينية.
حددت الحكومة الصينية هدفها في تحقيق نمو اقتصادي يصل إلى 5% عام 2024، وهو ليس رقماً متواضعاً في ظل الظروف الحالية، بل رقم طموح يرى القادة الصينيون أن تحقيقه لن يكون سهلاً.
معدل النمو المستهدَف سيتطلب تحفيزاً حكومياً أقوى من الصين حتى تتمكن من تحقيقه، إذ لا يزال الاقتصاد يعتمد على الاستثمار في البنية التحتية الحكومية، الأمر الذي أدى إلى تراكم الديون على حكومات المناطق.
البيانات الرسمية الصينية كانت كشفت، في منتصف كانون الثاني/يناير الماضي، أن الاقتصاد الصيني نما بنسبة 5.2 في المئة في الربع الرابع من عام 2023.
وكانت أزمة العقارات والانكماش الاقتصادي المتزايد وانهيار سوق الأوراق المالية وتفاقم مشاكل ديون الحكومات المحلية، تسببت بزيادة الضغوط المفروضة على الحكومة الصينية.
البنك المركزي الصيني يرى أن "هناك توقعات مفعمة بالأمل بشأن تعزيز تحسن اقتصاد البلاد وانتعاشه عام 2024".
رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ حذر من أن "تحقيق أهداف هذا العام لن يكون سهلا"، مشيراً إلى أن "الأسس للتعافي الاقتصادي المستدام والنمو في الصين ليست صلبة بما يكفي".
أولوية الاقتصاد وإن كانت هي السياسة الأكثر تفضيلاً لدى الصين، لكنها لا يمكن أن تكون على حساب الأمن القومي، الذي بات يشهد تهديدات وتحديات لا بد من مواجهتها، أو الاستعداد للتعامل معها.
الدول المحيطة بالصين هي الأكثر تأثراً وترقباً ربما لما ستسفر عنه تلك الاجتماعات، بحيث من المتوقع أن يتم إعلان ميزانية بكين الدفاعية لعام 2024.
وتشير التوقعات إلى أن الصين ستزيد في ميزانيتها العسكرية هذا العام بنسبة 7.2%، لتبلغ نحو 231 مليار دولار. وهي نسبة الزيادة نفسها للعام الماضي، وهي أعلى من معدل النمو الاقتصادي الذي تتوقعه الحكومة الصينية، والمقدر بنحو 5%، كما في العام الماضي.
الزيادة في الإنفاق الدفاعي لهذا العام هي الزيادة التاسعة على التوالي. وكما هي الحال في الأعوام السابقة، اكتفت بكين بذكر المبلغ الإجمالي ومعدل الزيادة فقط، من دون تقديم تفاصيل لهذا الإنفاق.
هذه الزيادة مرتبطة بما يشهده العالم من سباق محموم على التسلح، وخصوصاً في ظل ما تشهده الحرب في أوكرانيا، والتوترات في منطقة الشرق الأوسط.
تايوان قضية الشعب الصيني
لطالما أكدت بكين حتمية استعادة تايوان ومواجهة الانفصاليين فيها، كونها جزءاً لا يتجزأ من البلاد.
ما يؤخر عودة تايوان نظرة الصين إليها كونها جزءاً من البلاد، وبالتالي فإن أي مواجه مع حكومتها ستعرض المواطنين الصينيين للخطر.
التقارير السنوية كانت تتحدث عن "إعادة التوحيد السلمي" للجزيرة، لكن التقرير لهذا العام غفل عن هذه العبارة، وهو ما يعني أن كل الخيارات باتت مطروحة.
المشكلة في قضية تايوان هي العامل الخارجي، بمعنى دور الولايات المتحدة في استخدام هذه الورقة لابتزاز الصين وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات.
تايوان باتت اليوم قضية الأمة الصينية، لذا لا مجال للنقاش بشأن إمكان عودتها، بل بات السؤال يتجسد في القول: هل باتت تلك العودة قريبة أم لا؟
أبعد التقديرات يشير إلى أن تلك العودة ستكون قبل الاحتفال بمئوية تأسيس جمهورية الصين الشعبية، أي في عام 2049.
دروس التاريخ تفيد بأن الولايات المتحدة ستتخلى حتماً عن تايوان كما تخلت عن غيرها، وأن ذلك سيكون حين تكون بكين قادرة على دفع الثمن في مفاوضاتها مع واشنطن.
أمن البحر الأحمر
لم يهتمَّ الصينيون، عبر تاريخهم الطويل، بالبحر، ولا بالقوة البحرية، حتى إن جزيرة تايوان، التي هي جزء من جمهورية الصين الشعبية، اكتشفها البرتغاليون في بداية الأمر وعاشوا فيها. فالصين كانت دولة منغلقة على نفسها، متحصّنة بسور شاهق يحميها من غزوات المعتدين.
تدرك بكين أن سعي الولايات المتحدة لعسكرة منطقة البحر الأحمر الهدف منه عسكرة المنطقة وعرقلة مرور البضائع الصينية إلى أوروبا.
تعظيم المخاطر بات سياسة أميركية واضحة، الهدف منها حث الدول على الانضمام إلى تحالف الازدهار الذي تقوده الولايات المتحدة.
الحديث عن استهداف الجيش اليمني للكابلات البحرية لا معنى له، وخصوصاً أن القوات المسلحة اليمنية نفت ذلك.
حديث الخبراء عن محدودية عدد الدول التي تمتلك غواصات قادرة على الوصول إلى الأعماق، حيث توجد تلك الكابلات، يجعلنا نفكر، بل نوجه أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة.
المساعي الأميركية لتفعيل الهند وجعلها منافساً حقيقياً للصين تندرج ضمن هذا السياق، وخصوصاً أن الممر الهندي بدأ العمل التجريبي به.
تأجيج الصراعات وإشعال الحروب باتا سياسة أميركية واضحة، وخصوصاً أن الاقتصاد الأميركي هو اقتصاد حربي، ازدهاره يتوقف على القتل.
عدد القتلى في العالم هو عدد المنتوجات لذلك الاقتصاد، وهو ما يفسر لنا حجم الحروب المشتعلة في العالم اليوم، ودورها في إعادة التعافي إلى الاقتصاد الأميركي.
الصين تدرك أن اللجوء إلى القوة العسكرية يعني فشل السياسة، لذا فهي تسعى لإثبات حنكتها ومهاراتها في السياسة.