الشّيخ علي سلمان.. الأمين الذي أعجز خصومه
في حراكه وخطاباته طوال عقد ونصف العقد، أي بعد رجوعه من المهجر وممارسة العمل السياسي من البحرين، كان لخطابات الشيخ علي سلمان أثر كبير في صوغ الحراك المطلبي.
تتعالى أصوات المطالبين بالإفراج عن الشيخ علي سلمان، المعارض البحريني البارز، والأمين العام لجمعية "الوفاق"، والرجل الوطني المعروف بخطابه المعتدل الحازم والجاد. أصوات المطالبين بالإفراج عنه وهو يكمل عامه السابع في السجن لم تقتصر على البحرين فقط، ففي خارجها أيضاً، ثمة من يثق بالرجل وعطائه وأهمية حضوره خارج السجن لكسر الجمود السياسي. أما صدى مظلوميته، قد وصل إلى جنيف، وأزعج داونغ ستريت، وحضر في واشنطن! إنَّ المطالبين بالإفراج عنه إنما يطالبون بالإفراج عن قضية وطن حُبست لكي تحبس استحقاقاتها لا أكثر.
إجادة صياغة الخطاب العملي
في حراكه وخطاباته طوال عقد ونصف العقد، أي بعد رجوعه من المهجر وممارسة العمل السياسي من البحرين بعد الانفراجة السياسية التي حدثت في العام 2001، كان لخطابات الشيخ علي سلمان أثر كبير في صوغ الحراك المطلبي، سواء عبر منبره يوم الجمعة، أو في كلماته السياسية، أو عبر الندوات الوطنية التي سُمح آنذاك بها، فكانت رافداً للتفاعل الشعبي مع قضايا الوطن.
القول إنّ الأمين العام لجمعية "الوفاق" أجاد صياغة خطابه عملياً، لا يعني أنّه معصوم آناء الليل وأطراف النهار، لكن الغالب في صناعته للخطاب هو ما يمكن أن نقول عنه، وبكل ثقة، إنه عامل إيجابي برع فيه الشيخ سلمان بالتفاته الدقيق إلى موازين القوى، وأتقن تظهيره بعبارات وخطوات تشي بالجدية التامة الممزوجة بالمرونة والتسامح.
إنَّ خطابه للمكوّن السني هو خطاب يعجز خصومه عن أن يجدوا فيه ثغرة طائفية، وهو أكثر ما أنهك السلطة في البحرين، والسبب أنَّها حين عجزت عن تفنيد المطالب الوطنية للمعارضة البحرينية بشكل عام، والشيخ علي سلمان بشكل خاص، لجأت إلى الوتر الطائفي، وعزفت عليه أغنية الشيطان الذي يفرّق بين الناس فيسدّ الخير بينهم، لكنَّ تلك الأغنية بدت نشازاً، لأنَّ خطاب الشيخ علي كان الإلياذة التي أسكتت طائفية السلطة، فعجزت الأخيرة عن مجاراته، وسجنته يوم 27 كانون الأول/ديسمبر 2014 بتهمة التحريض. وفي العام 2017، أضافت إليه تهمة التخابر مع قطر.
تخبّط السّلطة وهدوء الأمين
كانت السّلطة تبحث عن أيِّ حجّة لاعتقال الشيخ علي. كانت تهمة التحريض مستخرجة من كتاب "الكوميديا السوداء"، لأنَّه كان يدعو السلطة ليلاً ونهاراً إلى أن تكفّ عن التحريض وتراعي مصلحة الوطن، وكان يمد يده للموالاة، ويقول لهم: "إننا نحبّكم". هل خطر على بال أحد أنَّ سياسياً مهدّداً وجماعته، فيما البلاد تعيش أجواء احتقان أمني وسياسي، يقول: إننا نحبكم، ولمن؟ للموالاة التي كانت تعمل على ترديد سردية السلطة في تخوين المعارضة الوطنية، وإسقاط رموزها عبر التهمة والبهتان والتلفيق.
حين أدركت السّلطة أنَّها كتبت تهمة "سخيفة" بحق الشيخ علي سلمان، وتأتأ قضاتها بسرد تلك التهمة ومستنداتها القانونية، كانت مرافعة الشيخ علي سلمان الأولى في 14 أكتوبر/تشرين الأول في العام 2015 حارقة وماحقة. إنها تقول لهم: هذا التسامح الّذي أبالغ في اعتداله، لامني عليه القريب قبل البعيد. مع ذلك، كانت قناعتي أن أمدّ يدي للوطن كلّ الوطن، بسلطته وموالاته وأطراف معارضته. أمدّ يدي لأقول: كفانا تشتّتاً! سقف الوطن يظللنا جميعاً، وإن سقط، فإنه يسقط على رؤوسنا جميعاً.
هذا النفَس في الخطاب دفع السلطة إلى فتح كتاب "الكوميديا السوداء" مجدداً، لأنَّ مكتبة السلطة لا تضمّ إلا هذا الكتاب، ففتّشت عن تهمة في العام 2017، ووجدت تهمة التخابر مع أطراف خارجيّة. كانت هذه التهمة تتعامد مع خطوة السعودية القاضية بحصار قطر، ووجدت السلطة أنَّ مكالمة رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم مع الشيخ علي سلمان دليل على هذه التهمة، ولو كان حمد بن جاسم جالساً مع ملك البحرين أثناء إجراء المكالمة. لا يهم! فالسلطة في البحرين لا تهمها سخرية القانونيين منها، وتعجّب الدبلوماسيين من تصرّفاتها. المهمّ لديها إطالة سجن سلمان لتحويله إلى المؤبّد، لترتاح من صوت حازم يتعبها، ومتسامح يغلق عليها ذرائعها في قمع المطالبين بحقوقهم.
قضية الشيخ علي سلمان قضية وطن
في مرافعته الأولى في العام 2015، قال الشيخ علي سلمان: "أعتقد أنَّ المشكلة الأساسية التي عانت منها البحرين في كلّ تاريخها، ولا تزال تعاني منها، تكمن في احتكار السلطة، وجعلها في أيدي أفراد قلائل يستفردون فيها باتخاذ القرار السياسي، ويحرمون الشعب من المشاركة الفاعلة فيها".
هذه المرافعة تمثّل ما هو عليه خارج السجن، كما هو عليه داخله، وتجسّد حرصه على مصلحة البحرين التي أصابها الاحتقان السياسي منذ العام 2008، فتفجّر في ثورة العام 2011، بسبب سوء إدارة البلاد وإدارة ثروتها وسياساتها الداخلية والخارجية.
الشيخ علي سلمان تحدّث بلسان عشرات الآلاف ممن اختاروا المطالبة بحقوقهم. يدا سلمان كانتا ممدودتين للسلطة. تعالوا لنبنيَ وطناً، لكنَّ يدَيِ السلطة كانتا مشغولتين؛ الأولى مشغولة بآلة قمع المواطنين، والأخرى بنهب ثروات الوطن ودفن البحار. خطاب سلمان يقول: يداكِ أيتها السّلطة مثقلتان بخزي التاريخ. انفضيهما وتعالي نبني تاريخاً مشرفاً لك وللجميع، ولكي يهنأ المواطن بعيش كريم وحرية آمنة ورأي مسموع، لكنَّ السلطة لا تريد أن تسمع تلك المطالب.
المطالب الوطنية مثبتة منذ العام 2011
صدر تقرير لجنة تقصي الحقائق برئاسة الراحل محمود شريف بسيوني يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، وهي لجنة شكّلها الملك بعد أحداث آذار/مارس من العام نفسه، وخلص إلى عدة أمور كانت المعارضة قد أكّدتها من قبل، من قبيل عدم وجود تدخل من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في البحرين، وتورط أجهزة الأمن في القمع، وممارسة التعذيب في السجون.
ورغم أنّ التقرير الذي يتألف من 513 صفحة في نسخته الأصلية الإنكليزية أغلبه إدانة للسّلطة، فإنَّ أهم ما فيه أنه يبدّد تهمها بشأن المعارضين، وخصوصاً الرموز الوطنية، فالتحريض ليس مثبتاً، ولا وجود لعمالة للخارج، وكل المطالب وطنية، ولكن بعد عقدين من الزمن مرّوا بمرارة على البحرينيين منذ انطلاق ثورة 14 شباط/فبراير 2011، تيقّظ جزء مهم من المولاة للمطالبات، وخصوصاً بعد مزاحمة "المجنسين لأسباب سياسية" لهم في مناطقهم، الأمر الذي خلق حالة من التذمر والخروج من عباءة "أطع ولو ضربك ولي الأمر"، فالمستقبل يبدو مجهولاً في ظل سلطة تمارس الخنق إلى ما لا نهاية. لذلك، يتذكّر البحرينيون الشيخ علي سلمان وبقية الرموز لأنهم الآن خلف القضبان بسبب كونهم لسان صدق وطنياً.